ملاحظات حول المنهج
منذ أن ابتُلي العالم الإسلامي بحكومات تطبّق القانون الغربي، وتبني الدولة على أساس النظريات الاستعمارية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ظهر كثير من الباحثين يروجون للأفكار الاستعمارية، ويدّعون أنه لا يمكن بناء الدولة الحديثة إلا على أساس تلك النظريات، فأعلنوا، وبلا تحفّظ، انحيازهم إلى النظريات الاستعمارية زاعمين أنها هي النظريات الأفضل والتي على أساس الاقتراب منها، أو البعد عنها، تتحدد إمكانيات أي نظام أو سلطة سياسية في القيام بوظائفها التي يتوقّعها منها الاجتماع.
فإذا ما ظهر مفكّر حباه الله بالذكاء والإخلاص هاجمه أولئك الكتاب، فما بالك إذا كان هناك فقيه يستطيع أن يبني بفكره ورؤاه طريقاً يقود الفرد والاجتماع كله، إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة؟! طبعاً انهم سيحاربونه، وكأن أي تقدّم تحققه الأمة الإسلامية يضرّ بمصالح هؤلاء، وهذا انحياز غالباً ما تحكمه عاطفة معينة، وانسياق وراء مسلّمات أثبت الواقع بطلانها.
فتخرج مواقفهم على شروط البحث العلمي، متناقضة مع الواقعية التي لا يمكن من غيرها إنجاز مشروع دراسي يتعلق بالتفكير السياسي وتقييم النظريات غير الغربية التي نشأت في أرجاء العالم، فليس الغرب هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه العلوم وتعود إليه، والباحث إن لم ينتبه لذلك وقع في خلل منهجي وخاصة إذا لم يستطع التخلص من تلك المسلّمات المسبقة.
إضافة إلى أن التفكير السياسي، خارج إطار الدول الغربية، ليس من الضروري أن يكون متأثراً بالنظريات الغربية، فتاريخنا الإسلامي حافل بالتنظير السياسي، كما أن المعاصرين من مفكري الإسلام، ومن أبرزهم الإمام الشيرازي، قدموا فكراً سياسياً مستنيراً بحيث تأثر به علماء الغرب وأسسوا نظرياتهم على أساسه، مع ترقيعها برؤيتهم المادية، فظهرت وكأنها نقيض لذاك.
وتبرز حدة التناقض بين النظريات السياسية الغربية، والفكر السياسي المنبثق من مقولات إسلامية، بشكل كبير، في اختلاف التوجهات والأهداف والأساليب بين النمطين من التفكير والأداء، ضمن ما يعتبره الإسلام واجباً لا تراجع عنه، والذي ينبغي أن يحظى بموافقة ضمنية أو صريحة لأفراد المجتمع، على أن ذلك الرضا العام، ليس مطلوباً، بحد ذاته كهدف نهائي إلا بالتلازم مع طاعة الله وقيادة تتفهّم قوانين الإسلام وشروط التغيير، وطبيعة العلاقات داخل المجتمع، ثم المتغيرات النفسية والاجتماعية، لتستفيد من كل ذلك في بناء نظريتها السياسية الخاصة بها، بغض النظر عن توافقها مع هذا الرأي أو ذاك، أو مع الرأي العام في البلد، في المرحلة الأولى، حين لا يكون الوعي قد وصل إلى المرحلة التي تؤهل الناس إلى استيعاب مقولات ذلك الفكر، بفعل حملات التضليل التي يمارسها الحكام الدكتاتوريون وأعداء الإسلام في الداخل والخارج.
على أن يكون ذلك في إطار مرحلة ما، لا على أساس قانون شامل يهمل الرأي العام، لأن هذا القانون لا يمكن أن يخدم الإسلام، على الإطلاق في المراحل المتلاحقة لبناء دولة الإسلام وذلك باعتبار أن الدولة الإسلامية، في أساسها، متوجهة إلى الرأي العام، بهدف تطويره وإدماجه في عمليات التغيير المتواصل، فهدف الإسلام سعادة المجتمع في الدنيا والفوز في الآخرة.
وهذا لا يعني أن الاجتماع الإسلامي يجب أن ينقطع عن النظريات السياسية الغربية، بل على العكس من ذلك، فالواقع يثبت ازدياد ضرورة الاستفادة مما وصلت إليه العلوم في مسيرة تطورها، ومنها علم السياسة وما أضافه من إضافات جد خطيرة، فقد أنتج الغرب نظريات الديمقراطية والأحزاب وتداول السلطة وتحكّم الشركات والرساميل والاشتراكية، وغيرها.. مما يفرض الإطّلاع عليها، وربما الإفادة منها بما يُغني الواقع الإسلامي، خاصة إذا كان منسجماً مع الأصالة الإسلامية، بل أنّ كثيراً من أسس تلك الإنجازات موجودة في الإسلام وبشكل أرقى وأفضل.
إلا أن ما يجب أن نهتم به، هو اختيار أفضل المناهج والأساليب التي تنبثق من الإسلام نفسه، حسب الذي يراه فقهاء الإسلام أنفسهم لأنهم أكثر الناس تمعّناً بالفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية من جهة، وتأثيرهم في الفكر الغربي نفسه، من جهة أخرى، فلماذا نذهب إلى الفرع بدلاً من الأصل؟
ويمكن اعتبار دراسات الإمام الشيرازي من أفضل ما يمثل هذه الحقيقة الكبرى، فقد وضع نظريات سياسية لبناء الدولة الإسلامية وطريقة عملها ومنهجها والطريق الذي يوصل إليها ضمن ما سمّاه بالتغيير وذلك من غير اشتراط لتبني نظرية غربية معينة.
فإذا كان الغربيون رأوا أن الدين لا يبني دولة وليس له نظرية سياسية، فإنما ذلك رأي مبني على السلوك الكنسي، أما في الإسلام فإن هناك نظاماً متكاملاً وفقهاء فهموه ووضعوا له صياغته القانونية المناسبة.
وبالطبع، فهناك من يرى ضرورة الاعتماد على وجهة نظر غربية محددة لا يحق لأي أحد أن يتجاوزها مهما كانت الظروف، فيختار نظرية ما، بكل ما فيها من خلل واضطراب، ولعل أبرز الذين مثلوا هذا الاتجاه، هم الماركسيون، بمختلف فصائلهم وتعدد آرائهم، ولكن تطورات العالم قد أثبتت فشلهم، وخاصة، بعد انهيار المجتمع الذي ضيع من عمره سبعين عاماً من أجل محاولة تطبيق الماركسية، ثم اضطر إلى إعلان فشل نظريته في تحقيق الهدف المعلن عنه من وراء تطبيقها، مما تنبّأ به الإمام الشيرازي قبل أكثر من عشرين عاماً. فأيهما أحقّ بالاتباع أولئك الأدعياء، أم الرؤية السياسية الصائبة التي تنبّأت بسقوطهم؟!
لقد سقطت التطبيقات الاشتراكية في جميع أرجاء العالم، لا بسبب التدخل الأجنبي على ما كان يشيعه أنصار تلك التطبيقات والمستفيدون منها، وإنما لأسباب داخلية، تتعلق في فشل الماركسية وتوجهاتها، وأثبت ذلك أنه لا توجد نظرية تستطيع أن تجمّد الإنسان ضمن إطارها. فثمة خلافات واختلافات في الخصائص النفسية، وفي مراحل التطور والوعي، وفي طبيعة حاجات الناس اليومية.
إن دراسة تطورات التاريخ، وخاصة ما اكتشفه العلماء في دراساتهم عن اختلاف العادات والتقاليد بين الشعوب، أثبتت أن تلك الاختلافات التي هي مسألة جوهرية، لا يبدو أن الأفكار الوضعيّة تستطيع أن تحلّها، حتى يتطور العالم حضارياً، وتتصاعد العلاقات بين الشعوب والأمم، ويتبيّن العالم النهج الأصوب والأنفع والأجدى، والذي نراه متمثلاً في النهج الإسلامي الذي أنزله الله، تبارك وتعالى، هداية للبشرية، فخالق الناس أعلم بما ينفعهم وما يضرّهم، وتلك بديهية لا سبيل إلى إنكارها.
من هنا ينبغي أن تتجه البحوث المنصرفة إلى تحديد مميزات الفكر السياسي لدى أي شخصية علمية، خاصة، إلى البدء من تحليل رؤى تلك الشخصيّة نفسها، بكل ما في الكلمة من معنى، أي بدراسة منهجها في رسم النظام السياسي للمجتمع المأمول بجميع شرائحه وفصائله، ودراسة الموقف من القيادة السياسية، والحكومة والمؤسسات، ثم دراسة نشاط أبناء المجتمع المسلم، وعلاقتهم بالخطط التغييرية، ومدى اندماجهم في عمليات التغيير والوعي، بل ومدى تعبير تلك العمليات عن أهدافهم، وبخاصة على صعيد الهدف الاستراتيجي العام وهو تحقيق دولة الإسلام الواحدة في جميع أرجاء العالم، إذ لا وصول إلى الآمال بدون تحديد أهداف مرحلية وأهداف استراتيجية يمكن الوصول إليها، وبالطبع فإن هذا التحديد لا يمكن أن يتم من غير فكر سياسي، أو لا أقل من وجود نظرية سياسية.
ويفترض أن الأداء السياسي في العالم كله، يجب أن يهدف إلى مجموعة كبيرة من الأهداف التي يمكن إجمالها بكلمات قليلة وهي سعادة الإنسان، ووحدة المجتمع... ولا يمكن أبداً أن نتخيل دولة من غير أن تضع ذلك الهدف في صلب اهتماماتها الأولى وسعيها الدؤوب، ولكنّ الواقع يثبت فشل جميع حكومات العالم الحديث في الوصول إلى تلك الغاية، والأدلة كثيرة تشهد بشقاء البشرية، وازدياد تعاستها.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بحدود هذا البحث، ومنهجيته، فإننا لا نخطأ إذا قلنا إن الهدف الذي نستنبطه من كتابات الإمام الشيرازي، على ما سيأتي تفصيله، يكاد لا يتجاوز تحقيق سعادة الناس، ووحدة المجتمع الإسلامي.ولكنه يعطي لمفهوم سعادة الإنسان بُعداً أخروياً، أي أنّ الهدف هو رضوان الله جلّ وعلا، ونصل إلى هذه الحقيقة من خلال استنباط الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يرسيه الإمام الشيرازي على أسس الإسلام الحنيف، والذي يجد له انعكاسات معينة في جملة من أكثر النظريات السياسية العلمية احتراماً ورصانة، على ما سوف نثبت ذلك.ويمكن أن نذكر اقتراح العالم الاجتماعي ف. بوريكو بأن يتم تحديد علم السياسة
(كمجموعة من العمليات المتطورة يحقق المجتمع بواسطتها وحدته) لنرى أنه قد أخذه من دراسته للفكر السياسي الشيرازي، من خلال فهمه لتبنّي الإمام الشيرازي لوحدة الاجتماع، خاصة وأن البلاد الإسلامية مكوّنة في الأساس من مجموعة من المجتمعات الصغيرة، القبيلة، والأسرة، والمنطقة الجغرافية.. وغيرها.. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه البلاد الإسلامية مقسمة إلى جغرافية سياسية منوّعة، ونكاد نقول غير متوافقة، بفعل انقطاع التواصل المطلوب بين الشعوب، وبفعل اغتصاب الظالمين والديكتاتوريين للسلطة، وبفعل خلافات الحكومات ومشاكل التنمية العرجاء والتغريب المتواصل.. هذه البلاد الإسلامية المتفرّقة تستطيع إعادة صياغة وحدة الاجتماع، لا على أساس نظري فحسب، وإنما، أيضاً على أساس تطبيقي عملي.
إننا حين نربط معيار نجاح الفكر السياسي بتحقيق وحدة الاجتماع برغم كل المعوقات، نوفّر إمكانية تطبيقية هائلة لاستنباط ملامح الفكر السياسي الشيرازي الذي يتبنّى تلك النتيجة الباهرة المتمثّلة بإقامة دولة الإسلام الواحدة.
إن هذا المنطلق لدراسة فكر ومنهج الإمام الشيرازي مكّننا في هذا البحث، من النظر إلى مسائل بحثها سماحته وتعتبر من أسس علم بناء الدولة في العصر الحديث، وذلك من الوحدات الصغيرة ـ بحسب تعبير الإمام الشيرازي نفسه ـ كإدارة العائلة الصغيرة ثم العائلة الكبيرة حتى المشاريع الأكثر طموحاً: كإنشاء الحكومة، والمؤسسات الاقتصادية، وتنظيم القوات المسلحة بكل فصائلها.. إلخ.. حيث إن كل هذه المشاريع هي تقسيم جديد للمجتمع، ولكنه تقسيم يصب في إطار وحدة الاجتماع، ويزيد من ترسيخها مع إدراكنا بأن كثيراً من الحكومات في العالم الإسلامي قد حولت مجتمعاتها إلى قوى متناحرة، من عسكرية، ومخابرات داخلية، وقوى حكومية ومؤسساتية، فمزّقت المجتمع، إذ أنها كوّنت طبقة عسكرية مترفّعة، وطبقات اجتماعية متفاوتة جداً. غير أنّ رؤية الإمام الشيرازي إلى هذه التقسيمات تحوّلها إلى زيادة وحدة المجتمع المسلم، واستطاع الإمام الشيرازي، أن يرسخ وحدة الاجتماع من خلال تطوير الأفراد والجماعات، وفهم جيداً التحديات التي تواجهه على أرض الواقع الحالي، كالديكتاتورية والاستعمار وغيرها، ثم إن ذلك الفكر استطاع أن يوجه الناس نحو الأهداف العليا. حتى أننا لا نستطيع إنكار أن الاستفادة من العقبات ميزة من أبرز ميزات الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي للإمام الشيرازي. وربما كان هذا عائداً ـ في جانب من أهم جوانبه ـ إلى المعايير الخلقية التي تحكم مسار ذلك الفكر.
إن الإمام الشيرازي لا يريد منا أن نعود إلى المفهوم القديم للدولة الأموية والعبّاسية، بمقدار ما يريد ترسيخ الخطوات التغييرية، ورفع مستوى المجتمع لأداء الوظائف السياسية التي على السلطة الحديثة واجب تنفيذها وتحقيقها، عبر جميع الطرق والأساليب المنسجمة مع الشرعية والصلاحية التي تتمتع بها الدولة الإسلامية، وهذا ما استفاد منه، بكل تأكيد، كثير من علماء السياسة المعاصرين، على ما سنذكره في موضعه.
إن عملية تطبيقية، بهذا المدى، وفي مؤلفات الإمام الشيرازي بالذات، ومعاناته الشخصية في أكثر من بلد في هذا العالم، ستثير في نفوس الباحثين الانبهار، وتجعلهم خاضعين لرؤاه، وخاصّة حين يعايشون الإمام الشيرازي عن قرب، ويطّلعون على صفاته الشخصية. ويمكن الاستفادة من هذه المشاعر مع استخدام أسلوب التحليل العلمي للفكر وتأثيره في الزمن الحالي والمستقبلي. في نفس الوقت نجد أن العالم الإسلامي يمرّ بمرحلة حرجة جداً، فهناك سقوط أخلاقي رهيب في بعض البلدان، وهناك تجارة بالشعارات باسم الثورية تارة وباسم القومية تارة، وباسم الاشتراكية حيناً، وباسم الديمقراطية أحياناً، ثم باسم تحرير فلسطين التي يعطونها بعداً قومياً لا مبرر له، ولم يستطيعوا عن طريقه الوصول إلى أي نتيجة، والأجدر بهم تحرير أنفسهم أولاً من التبعية للدول الاستعمارية.
ويحدد الإمام الشيرازي كل ذلك الانهيار ويرى أن حال هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به حالها أولاً عبر التجربة التاريخية نفسها، أي بالإسلام والإسلام فقط.
إن المراقبة الواعية لمجريات ما حصل ويحصل على الأرض الإسلامية، وازدياد الوعي العام بضرورة الدولة الإسلامية الواحدة، يشجع الباحثين المخلصين على المضي في دراسة فكر الإمام الشيرازي، من غير اكتفاء بالجانب النظري، لأن الفكر السياسي الشيرازي بجوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يجد مصاديقه في الواقع، بل لا نغالي إذا قلنا إن ذلك الفكر هو تعبير عن واقع معاش بكل مرارته وأحلامه، وهو أيضاً تنظير لواقع مأمول سرعان ما سيصبح معاشاً، بصورة تنفي أي صورة من صور الاختلاف بين الشعار والتطبيق، كما يلغي، بالتالي، إمكانية التناقض بين الأمرين.
هناك، وقبل أي أمر آخر، حقيقة علمية يفرضها هذا البحث، ويلتزم بها الباحثون الجادّون، بل ويتبنونها، وهي الاقتراب أكثر فأكثر من سماحة الإمام الشيرازي نفسه.
إن هذا الاقتراب يفتح آفاقاً ضرورية لفهم الإمام الشيرازي وأفكاره المستنيرة، ولنتبين شرعية القيادة السياسية، وطبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي، باختلاف مكانتهم ومنزلتهم الاجتماعية، ودورهم في عملية التغيير، مما يعني معرفة مدى النجاح في تحقيق الأهداف الحقيقية للدولة الإسلامية، خاصة في تكامل المجتمع، والتحام المواطنين مع بعضهم البعض.
وقد ساعدت نصوص مؤلفات الإمام الشيرازي على استنباط هذه القاعدة التي تجري بموجبها عملية النهضة التغييرية. وذلك مما يقدم مساعدة كبيرة في إنجاح عملية التغيير، بفعل الإرادة المبدئية القوية التي تقود مسلمي العالم نحو غدهم المرتقب، ومن خلال ما يقدمونه على الصعيدين النظري والعملي، وتمكّنهم من التعرف على ملامح الفكر الإسلامي بصياغة جديدة يقوم بها الإمام الشيرازي، ودورهم هم في صناعة الغد، بفعل طواعية الاندماج في العملية التغييرية، والشعور بالمسؤولية. وبهذا يمكن الاستدلال على وجود رأي عام، وقناعة شعبية عامة، بضرورة تبني ذلك الفكر الموصل إلى تحقيق حكومة ألف مليون مسلم.
وإذا قبلنا هذه المنطلقات المعتمدة على الانبثاق من الواقع الإسلامي نفسه، والمطّلعة على أحوال العالم، فإن النتيجة الحتمية التي سنصل إليها هي أن السلطة السياسية في دولة الإسلام، لا تقتصر على جانب من جوانب المجتمع المسلم، بل هي حاصل دمج واع بين الفقهاء، والحكومة، وسائر أبناء الاجتماع. وتدل التجارب التاريخية على أن التواصل الخلاق بين جميع أبناء الاجتماع حاكمين ومحكومين، هو عملية منبثقة من النظرة الإسلامية للمجتمع الذي عنه تنبثق الحكومة، بالدرجة الأولى، من غير إغفال لدور الظروف الموضوعية التي يولّدها الوعي، أو تلك التي تساعد على تطويره مما يندرج في العادات والتقاليد، ما كان موروثاً منها، وما كان جديداً، لأنهما، معاً، نتاج البيئة وما فيها من أخلاقيات، سواء على الصعيد الشخصي أم على الصعيد الاجتماعي، نعني بذلك كلاً من المكونات الذاتية لطبيعة العلاقات الشخصية بين الناس، وطبيعة علاقاتهم ككل مع القيادة السياسية للدولة الإسلامية.
كما أن هذه النظرة ستفتح أمامنا آفاقاً لا تحد لفهم دور القوانين الإسلامية، في تنظيم المسيرة العامة للبلاد الإسلامية الموحّدة.. إضافة إلى استبيان الطاعة التي يظهرها المجتمع للقيادة التي تطبّق إرادة الله، سبحانه وتعالى، والتي تستطيع أن تستثمر ثقة الناس بها في ترسيخ دور القانون الإسلامي في النهوض بالمجتمع، كأفراد، وجماعات، وعناصر سكانية، وكمناطق جغرافية متنوعة، وكمذاهب، ثم كمجتمع موحد ومتماسك، للتقدم عبر العمل المثمر البنّاء الذي هو مصداق للشعارات الإسلامية وليس نقيضاً لها.
وإذا كان هناك اعتراف ضمني أحياناً وصريح أحياناً كثيرة، من أن المفكر السياسي يواجه صعوبة بالغة، في تقويمه للنشاط السياسي في أي بلد من البلدان، ولدى أية شخصية من الشخصيات، وخاصة في ظروف العالم الإسلامي المختلف والمتنازع كثيراً هي غموض وسائل البحث والاستقصاء، إضافة إلى قلّة الإمكانيات، والحصار الذي يتعرض له كثير من حملة الفكر الحر من الفقهاء والمثقفين وغيرهم، وقلة الشواهد والاستبيانات المساعدة على تصور أكثر نضجاً للأهداف السياسية والركائز الفكرية، فإن كتابات الإمام الشيرازي ورؤاه التنظيرية، برغم الحصار المفروض على سماحته، تقدم برهاناً عملياً مشاهداً وملموساً على إمكانية نجاح عملية تقويم الأداء السياسي للمجتمع المسلم المأمول الوصول إليه، ويعنينا من كل ذلك، هنا، الفكر السياسي وأساليب تنفيذه، ووصوله إلى مستوى الكفاءة لغرض تحقيق الأهداف المرجوة منه، بحيث يستطيع الباحث، اليوم، وبشيء من الجد والتضحية اللازمة، أن يجد قناعاته ورؤاه في ملامح ذلك الفكر، من خلال الملاحظة والتحليل الموضوعي.
ونعتقد أن هذه الأسباب قدمت فائدة كبيرة لهذه الدراسة، ووفرت إمكانيات جيدة للتطبيق، سواء في مستوى البحث عن الجذور والاستمرارية والتحليل، أم على مستوى الدراسات الإحصائية، مما تعنى به التقارير والدراسات السياسية الأخرى.
أما الإمام الشيرازي، الذي هو محور هذا البحث، فهو السيد محمد المهدي الحسيني الشيرازي.. الذي يهيئ مهاداً قوياً للعمل التغييري باتجاه تكوين دولة الإسلام الواحدة في جميع أرجاء العالم، مما هو مدعاة لافتخار كل مسلم على وجه الأرض.
وهنا ملاحظة لابد من إبدائها، وهي أن للسيد الإمام الشيرازي ما يزيد عن سبعمائة كتاب، تتداخل موضوعاتها بين الفقه والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون وغيرها.. ولم نكن، في هذا البحث نريد إعادة ما ذكره سماحته في كتبه، ولا إلى عرض تلك الكتب، فذلك مما لا يمكن تحقيقه لا من قبل باحث واحد ولا من قبل عشرات الباحثين، لذا كان همّنا الأساسي متجسّداً في الكشف عن منهجيّة سماحته، وجوهر أفكاره، وإعادة تمثّل رؤاه، بأسلوب أكاديمي بحثيّ عصري يستجلي أهداف فكر سماحته، عسى أن تستفيد الأمة الإسلامية من هذه الاستخلاصات الدقيقة لتبني حاضراً أفضل ومستقبلاً هانئاً سعيداً..
وكان من المقرر أن نصدر كتاباً مستقلاً لكل من السياسة والاجتماع والاقتصاد حسب منهج الإمام الشيرازي في بحث موضوع الدولة الإسلامية.
وكان مبررنا المشروع في ذلك أن للإمام الشيرازي رؤيته الثاقبة لكل من هذه المجالات الحيوية الثلاثة.
ولكن حين بدأنا البحث رأينا الإمام الشيرازي لا ينظر إلى هذه الموضوعات نظرة مستقلة بكل واحد منها، بل هو يربط السياسة بالاقتصاد بالاجتماع ربطاً محكماً، فالاقتصاد عند سماحته، مثلاً، ليس علماً مستقلاً أو منفصلاً عن الاجتماع، وخاصة أنه يؤكد على بعده الاجتماعي ويمنحه الخصائص الأخلاقية، فيكون الاقتصاد جزءً من الاجتماع، فلا اجتماع بلا اقتصاد ولا اقتصاد بلا اجتماع، وكلاهما ليس له وجود حقيقي حين لا تكون هناك أخلاق وسياسة إسلامية.
لذلك وجدنا أنفسنا أمام اكتشافات فكرية جديدة تماماً على الفكر الإنساني في كل من تلك الميادين الثلاثة، ففي السياسة بمفهومها العلمي نجد سماحته يعتبر السياسة علماً أخلاقياً قبل كل شيء، وفي الاجتماع نجد ممارسة التغيير وشروط الأمن والسلام، وفي الاقتصاد نجد نظرية المصرف الإسلامي (البنك الإسلامي) ونظرية النقد، ونظرية (الاقتصاد الاجتماعي) وهذه من الأمور التي لم يلتفت إليها أحد قبل الإمام الشيرازي. فقد كتب مفكرون كثيرون في السياسة وكتب آخرون في الاجتماع، وهناك من كتب في الاقتصاد، فنجد بحوثاً في الاقتصاد المقارن، وللإمام نفسه بحث في هذا الموضوع، وهناك (الاقتصاد السياسي) أما (الاقتصاد الاجتماعي) فلم نر أحداً من الباحثين قبل الإمام الشيرازي قد تطرّق إليه، وهذا ما ذكره سماحته في الميدانين الآخرين، أي السياسة والاجتماع.
ولذا قر رأينا على أن نتناول السياسة والاجتماع والاقتصاد معاً بناء على منهج الإمام الشيرازي في دراسة الموضوعات المذكورة.
والحقيقة أن متابعة أي موضوع من هذه الموضوعات، من وجهة نظر الإمام الشيرازي سيقودنا إلى الموضوعين الآخرين، فأي بحث في السياسة الداخلية أو الخارجية للدولة سيؤدي بنا إلى النظر في الاجتماع والاقتصاد، وهكذا حيث البحث في الاجتماع والاقتصاد، حيث نجد أنفسنا مسوقين للحديث عن علم السياسة، فهناك عرى وثيقة بين جميع هذه الموضوعات بفعل أنها جميعاً تنبعث من جوهر فكري واحد هو الشريعة الإسلامية التي تمثل بؤرة أساسية في تفكير الإمام الشيرازي، ومنها تنطلق أشعة تسير على هديها جميع المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكلها تقوم عند سماحته على أساس الأخلاق.
وإذا كان لابد من شواهد للتدليل على هذه الرؤية فننقل هنا نصوصاً، دالة على ذلك الترابط:
* الأول: من كتاب (السياسة) لسماحة الإمام، وفي النص علاقة واضحة بين الموضوعات الثلاثة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث يقول:
(السياسة هي عبارة عن إعمال القدرة، وأن القدرة حقيقة واحدة لها مظاهر، وأن بعض أقسام إعمال القدرة مصلح، وبعضه مفسد فأهم ما يجب أن يبحث عنه في علم السياسة أمور ثلاثة: الأول: ما نوع السياسة الذي يجب أن يسود المجتمع حتى يوفر أكبر قدر من الخير لأكبر كمية من أفراد المجتمع. وإنما لم نقل كل أفراد المجتمع لأن الغالب، إن لم يكن الدائم، تضارب مصالح المجتمع، حقيقة، ولا أقل من زعم التضارب عند جماعات من الناس، فلا يمكن أن يعم الخير في المفهوم العرفي، الجميع. (وهذا ربط واضح للموضوع السياسي بكل من الاجتماع والاقتصاد، وفي نفس الوقت ربط لهذين العلمين بعلم السياسة، ويواصل سماحته):
مثلاً: في الحال الحاضر، النظام الرأسمالي، تتضارب فيه مصلحة كبار الأثرياء مع مصلحة الطبقة العاملة، والنظام الشيوعي تتضارب فيه مصلحة الطبقة الحاكمة المالكة للثروة والقدرة مع مصلحة بقية الشعب، والنظام الديمقراطي تتضارب فيه مصلحة الأحزاب بعضها مع بعض، إذ كلّ يريد تنفيذ برنامجه والوصول إلى الحكم، والنظام الديكتاتوري تتضارب فيه مصلحة الديكتاتور ومصلحة الشعب، إلى غير ذلك.
الثاني: ما هي الوسائل التي تصطنعها الدولة لتنفيذ هذه السياسة، إذ قد تختلف الوسائل مع وحدة الهدف...
الثالث: ما هو نوع التأثير الذي يمكن أن يكون لنا في اختيار هذه السياسة واختيار هذه الوسائل.... فالبحث السياسي قرار، وكيفية تنفيذ ونتائج تترتب على القرار، وكلاً من الثلاثة لها أشكال، ولذا يجب أن يبحث السياسي عن ما هو القرار الملائم؟ وعن ما هو التنفيذ الملائم لهذا القرار؟ وعن ما هو الأثر الذي يتوخّاه من هذا القرار؟)(1).
* الثاني: وهنا نص آخر، ولكنه اقتصادي، يتوضّح فيه الربط بين الاقتصاد والاجتماع، ثم ننقل نصاً ثالثاً من أوائل الكتابات الاجتماعية للإمام الشيرازي حيث يتوضّح الربط لا بين الاقتصاد والاجتماع، هذه المرة، بل بين الاجتماع والاقتصاد، وبمعنى آخر، أنه لا فصل بين الاثنين أبداً.
فأما النص الاقتصادي، فقد ورد في مقدمة كتاب (الاقتصاد بين المشاكل والحلول) حيث يقول سماحته:
(الاقتصاد هو عصب هامّ للحياة، وتقاس الأمم، فيما تقاس، باقتصادها. فالأمم الفقيرة تسحقها أنياب الزمن، وتطحنها عجلات الدهر، فلا يبقى لها اسم ولا رسم. ونحن عندما نقرأ التاريخ لا نرى شيئاً يذكر عن الأمم الفقيرة، لأن التاريخ هو، عادة، سرد لحياة الأمم المتحضرة. والحضارة اقترنت بالاقتصاد، فهي كالإنسان الحي يولد ثم يكبر ثم تستولي عليه الشيخوخة. وهي جسد وروح، جسدها الاقتصاد وروحها الأخلاق.
وإذا نظرنا اليوم (يقول الإمام الشيرازي) إلى الحضارة الغربية لوجدناها جسداً بلا روح، لأنها حضارة تمتلك الاقتصاد وحده من دون الأخلاق، فكان نتاج ذلك الربا والاحتكار والاستغلال والحروب. فالاقتصاد بلا أخلاق يتحول إلى معول للهدم وعامل للتدمير)(2).
وبعد أن يستعرض سماحته الويلات التي جرّها الاستعمار على العالم الإسلامي وغيره نتيجة النظرة الاقتصادية المبتعدة عن الأخلاق، يقرر:
(وإذا ما أعدنا النظر ثانية لوجدنا أن عالمنا اليوم هو أحوج ما يكون إلى اقتصاد سليم قائم على شريعة سمحاء ومُثُل سامية وأخلاق نبيلة.
اقتصاد هدفه إسعاد البشرية جمعاء، وليس تحويلهم إلى بهائم يأكلون ويشربون.
اقتصاد ينظر إلى الجميع نظرة مساواة، كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أسود على أبيض.
اقتصاد نابع من وجدان الإنسان، قادر على تفهّم مشاكله، ويستطيع أن يضع الحلول الناجحة لها. ومثل هذا الاقتصاد لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل الإسلام)(3).
فهل هناك شك في ما قررناه قبل قليل من أن الإمام الشيرازي قد ابتكر علماً جديداً هو (الاقتصاد الاجتماعي) حين ربط قضايا الاقتصاد بالأخلاق وجعلهما يتحركان في أجواء الاجتماع تحركاً حراً مسؤولاً؟!
* الثالث: وإذا كان ذلك النص يتعلّق ببحث اقتصادي فلننظر إلى نص آخر يتحرك هذه المرة في إطار الاجتماع، وهو بحث لسماحة الإمام عن المرأة نشره قبل أربعين عاماً في سلسلة منابع الثقافة الإسلامية، ونمعن النظر في أثر الاقتصاد فيه، قال سماحته:
(المرأة.. موضوع كثر الكلام حوله.
وغالب الكتّاب الإسلاميين الداعين إلى الفضيلة والعفاف، يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام، وحال المرأة في ظلّ الإسلام.
وهي مقارنة صحيحة.. لكنّ الكلام لا ينتهي عند هذا الحد.
إننا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي، وبين المرأة في المجتمع الغربي.
ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنما نريد عرض طرف من حقوق المرأة في المجتمعين، لنرى هل راحة المرأة جسدياً وفكرياً، وصحتها وثقافتها ونظافة سمعتها وإشباع غرائزها وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه، في ظلّ الإسلام أم في ظلّ الكفر)(4).
أي أنّ سماحته ينظر إلى قضية المرأة، وبالتالي، إلى قضية المجتمع كله، بناءً على:
* حقوق الإنسان، المعبّر عنها هنا بالراحة الجسدية والفكرية والصحة والثقافة، وإشباع الرغبات أو الغرائز المشروعة.
* من زاوية الأخلاق، المعبّر عنها هنا بنظافة السمعة وطهارة المجتمع.
وعلى هذه المنطلقات يشيّد الإمام الشيرازي، رؤيته للموضوع:
(تعيش المرأة في ظلّ الإسلام، ولها من الحقوق والواجبات مثل ما على الرجل من الحقوق والواجبات، فهي شقّ له في كلّ شيء.. إلا بعض الأمور التي استثنيت من جهة عدم المقتضى، أو وجود مانع.
فهي تشارك الرجل في الصلاة والصيام والخمس والزكاة والحج والجهاد.
ولكن، حيث إنّ لها وظائف بيتيّة، بالإضافة إلى خشونة الجهاد الذي لا يناسب ضعفها، ودقة جهازها، ووفرة مشاعرها الرقيقة، لا يحمّلها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في الضرورة فقط، وهذا مشروح في كتب الفقه.
كما تشاركه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وولاية الصالحين والبراءة من المجرمين.
هذا بالنسبة إلى العبادة، أما المعاملة بمعناها الوسيع، فلها التجارة والرهن والضمان والوديعة والمزارعة والمساقات والمضاربة والشركة والصلح والعارية والإجارة والوكالة والوقف والهبة والوصية، كما يجري عليها الحجر والفلس..
ولها النكاح والطلاق (إذا اشترطت) والنذر والحلف والعهد والعتق والتدبير والمكاتبة والإقرار والجعالة والصيد والذباحة والشفعة وإحياء الموات واللقطة والديات والقصاص والإرث..
كما أنّ الطعام والشراب بالنسبة إليها كسائر الرجال.
وغير ذلك..
نعم لها بعض أحكام خاصّة في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة، مثلاً في الإرث لها أقلّ من حقّ الرجل لأنّ الرجل هو القائم بالنفقة وعليه تبعة المسكن والملبس.
وليس الطلاق بيدها على الإطلاق، لأنّ حقّ القيمومة للرجل وذلك لأنّ إدارة البيت لابدّ أن توكل إلى واحد، وحزم الرجل أكثر من المرأة، ولذا جعلت إليه، وفي قبال هذا الواجب جعل حقّ الطلاق لتتكافأ الحقوق والواجبات.
وهكذا.. وهكذا..
وقد كانت المرأة في ظلّ الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفّهة لها حقوقها وعليها واجباتها.. حتى جاء الغرب فرآها محرومة عن (حقين)! فدافع بكلّ ما أوتي من حول وطول، لإرجاع الحقّين! إليها).
ثم يبيّن الإمام الشيرازي ما يسمونه بـ (الحقّين) ويناقشهما مناقشة علميّة هادئة، مستشهداً بأقوال علماء الغرب أنفسهم، مبيّناً أنّ (الحقين) المزعومين هما الاباحية وانتهاك جسد المرأة وإشغالها بما لا يلائم طبيعتها(5).
وواضحٌ أنّ هذا النصّ، ومجال بحثه المرأة، لا يتناسى البعدين الاقتصادي، والسياسي للموضوع، بل يدخلهما في صلب معالجته لحقوق المرأة الاقتصادية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حقوقها الأخرى.
بل أن سماحته يعقد فصلاً مستقلاً في كتابه (الاجتماع) يجعل عنوانه (الاقتصاد الاجتماعي)(6) وفيه فصّل الكلام في هذا الموضوع، وأزال أي شك في مدى التطوير الذي أدخله سماحته على الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، حين مزج بين الأمرين وخرج منهما بموضوع جديد ورؤية جديدة.
هكذا نرى أنّ الإمام الشيرازي لا يكتفي، وهو الفقيه المعروف، بمسائل الفقه وتحديداتها، بل يتجاوز ذلك إلى أحاديث لها علاقتها بالحياة الاجتماعية العامّة، سواء ما تعلّق منها بالرجل أم بالمرأة، بالأطفال أم بالشباب، بالاجتماع أم بالاقتصاد.
ومن هنا يأتي اهتمامنا بفكر سماحته في نواحيه المتعددة الجوانب والاجتهادات في السياسة والاجتماع والاقتصاد. فلا مسوّغ لمن يريد أن يسأل عن سبب الاهتمام بالإمام الشيرازي، ومنهجه وفكره.
ونحن حين نقرّر هذا إنما نجيب على أسئلة قد يوجهها بعض من لم يتعرّفوا على الإسلام وأخلاقياته، بشكل كافٍ، وذلك لأن العلماء والفقهاء يستحقّون ما هو أكبر من ذلك، يستحقون الاتّباع والحرية الحقيقية في قيادة الأمة، واتاحة الفرصة أمامهم كاملة ليؤدوا دورهم في توعية الناس. إنّ علينا أن نسير معهم ونفهم آراءهم لكي تتوحّد مسيرتنا بقيادتهم الشرعية المتمثلة اليوم في بضعة رجال قلائل يقف في مقدمتهم سماحة الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، ليحتلّ مكانة رفيعة في عالم اليوم، بالرغم من كل أنواع الحصارات والإشاعات التي واجهها، سماحته، طيلة مسيرته الإسلامية الشاملة، برحابة صدر وسماحة نفس، وتلك هي أخلاق العلماء الكبار، في كلّ العصور.
إننا نريد من وراء هذه البحوث أن نكشف عن منهج ناضج من مناهج العلماء المسلمين، لما فيه خير هذه الأمة في حاضرها ومستقبلها، هذا من جهة..
ومن جهة أخرى.
فإن نظريات الإمام الشيرازي، تهدف إلى تغيير الواقع في العالم الإسلامي، بل في العالم كلّه، نحو الأفضل لأنها حصيلة الفهم الواعي للإسلام بمصادر تشريعه الأربعة (القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة والإجماع والعقل) وتاريخه الحافل وتراثه العظيم، إضافة إلى فهم العصر الحديث والتغيرات الكبيرة الحاصلة فيه، ما بين شيء إيجابي وآلاف الأشياء السلبية الضارة فإن المشاكل والمآسي التي يتخبّط بها العالم اليوم لا مجال لها في ظلال دولة الإسلام المأمولة.
وحسب رؤية الإمام الشيرازي فإن الأمر في حالة تطبيق الإسلام يجري على وجه آخر، وبعبارة أكثر دقة، على وجه ترتضيه الشريعة الإسلامية السمحاء التي فيها جميع سنن وقوانين التطور. وآية ذلك كتابات التاريخ التي تثبت أن المسلمين، برغم فقرهم وصعوبة ظروف حياتهم، استطاعوا وبفترة وجيزة وقصيرة، من التاريخ، أن يعبروا إلى مستوى متطور من بناء دولة الإسلام ومجتمعها المتماسك واقتصادها المتين. وذلك تميّز عائد إلى جملة مسائل على أقصى درجات الأهمية، وهي:
أولاً: ان نظرة الأديان إلى الدنيا تنطلق من الإقرار بأن تلك الدنيا وما فيها من الثروات، هي مسألة وقتية زائلة، ولا يصحّ الاكتفاء بها ولا الاعتماد عليها، بل يجب أن تكون جسراً إلى الآخرة.
ولقد تكررت هذه الرؤية في كتابات الإمام الشيرازي حتى أصبحت مظهراً من مظاهر تطوّر الفكر الإسلامي في العصر الحديث.
إن الإمام الشيرازي قد كشف بشكل واضح وجريء أن هدف كل الأعمال الحصول على رضوان الله، تبارك وتعالى. فأصبح لازماً تحقيق رسالة الإسلام في الأخوة والمحبة والتعاون والتكافل الاجتماعي، وبذلك يكون هدف التغيير هو المجتمع الإسلامي ذاته. فما دام الفرد المسلم والاجتماع الإسلامي هو هدف تلك العملية فلابد أن يقوم كل واحد بواجباته التي حددتها له الشريعة وأوضحها بكل جلاء الإمام الشيرازي في بحوثه المتنوعة. وبذلك فتح الإمام الشيرازي أبواب المستقبل أمام الفرد المسلم ليتمتّع بثمار عمله، على ما سنلاحظه بجلاء في فصول هذا الكتاب.
وهكذا يقودنا الإمام الشيرازي لنفهم أنّ النهضة الإسلامية، بمرتكزاتها ووسائلها وأهدافها، تؤدي إلى مزيد من الكشف عن مكامن إبداع الفرد المسلم فيها، ومنزلته في تطوير نفسه وأهله وجميع أبناء مجتمعه.
هذا الكتاب يهدف إلى دراسة فكر الإمام الشيرازي ومنهجه في السياسة والاجتماع والاقتصاد، من خلال مؤلفات سماحته التي كشف فيها عن أصالة ذلك الفكر ومكوناته الأساسية التي هي (الشريعة) والأشعة المنطلقة منها، كما سنتبينه في دراستنا لأسس فكر سماحته، حصولاً على حقوق الأفراد والجماعات، وتحديداً لواجبات كل مجموعة من أبناء الاجتماع، كي يؤدي كل واحد وواحدة جميع تلك الواجبات التي على المسلم أن يؤديها تجاه نفسه وعائلته وجميع أبناء أمته. وقد رأينا قبل قليل أن سماحته يتحدث عن حقوق المرأة وواجباتها ويجعل كلاً منهما سبباً ونتيجة للثانية، وكذلك ما سنراه من نظرته إلى مكوّنات المجتمع الأخرى كالشباب والأطفال وحتى الرجال المكلفين تكليفاً شرعياً، وما التكليف الشرعي إلا واجب لا مفر من أدائه.
لقد اتّخذ الكتاب طريقة منهجية علمية في تحديد مساره بضمن الكتابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للإمام الشيرازي سواء ما تجلى منها في البحوث التي كتبها سماحته، أم في الممارسة العملية التاريخية لرجالات الإسلام، مقترباً في لغته وتحليلاته من روح ونصوص البحوث الشيرازية نفسها، لأنها أقدر في التعبير عن ذاتها بذاتها.
والتزم البحث بما يقتضيه المنهج العلمي من موضوعية تامة في النظر إلى المسائل والقضايا موضوعة الدرس والمتابعة.
وإذا كان هناك باحثون يتحدثون عن الصعوبات التي واجهتهم في بحوثهم، فأحمد الله أن مثل تلك الصعوبات لم يعاني منها هذا البحث الموسّع عن فكر سماحة الإمام الشيرازي، فما استطعت توفيره من كتب سماحته قد فرش طريق البحث بالنظريات الصائبة الميسّرة والتي زاد من يسرها الأمثلة التي كان سماحته حريصاً على ذكرها، وكذلك الشواهد التاريخية الجمّة التي سهّلت الكثير من موارد نظريات سماحته، وأعطتها أبعادها التاريخية.
إضافة إلى هذا يقتضيني البحث العلمي إلى أن أذكر أني أفدت من دراسات الفقهاء المسلمين للقضايا ذات العلاقة بموضوع هذا البحث، وخاصة في رسائلهم الفقهية، أثابهم الله بخير ثوابه وأجزل لهم الإحسان على جهودهم المضنية.
ومن ناحية ثانية قدمت لي دراسات معاصرة عن السياسة والاجتماع والاقتصاد في بعض دول العالم الإسلامي إفادات منهجية جمة، وأخص بالذكر ما كتبه الدكتور خلدون النقيب عن دول الخليج، والدكتور محمد عابد الجابري عن الخطاب السياسي المعاصر، وما كتبه الدكتور هادي حسن حمودي عن سلطنة عُمان، وما كتبه حسين القهواتي عن التجارة في الخليج، ومجيد الماجد عن أزمة السياسة والشريعة في بعض الدول العربية. فهذه المؤلفات قدمت لي ذخيرة منهجية جيدة فهي تدور في إطار دول من العالم الإسلامي، بحيث تسهل المقارنة بين رؤى الإمام الشيرازي وبين ما يحدث في دول العالم الإسلامي المعاصرة، وتلك المقارنة تشير إلى الصواب والخطأ في التجارب الحديثة.
أما المصادر الإنجليزية التي أفدت منها، فهي ما بين كتب في علم السياسة، وكتب في الاقتصاد، وأخرى في الاجتماع، وقد استشهدت ببعضها حيناً، وناقشت بعضها حيناً آخر، وقارنت بين ما جاء به كتابها وبين كتابات سماحة الإمام الشيرازي، ووصلت إلى قناعة تامة بأن كتابات سماحته قد أثّرت في كثير منهم، حتى وإن كابروا ولم يعترفوا بذلك، كما أن بعضهم قد انتقى من سماحته بعضاً وترك بعضاً، وذلك بناء على توجهات ذلك البعض وانتماءاتهم الفكرية، ومصالح دولهم، وقد أشرت إلى تلك البحوث في الحواشي التي وضعتها في آخر الكتاب منظّمة على أساس تسلسل الفصول في الكتاب.
وبعد:
فإن الأخذ بما يقوله الإمام الشيرازي، يحرّر المرء المسلم من التقليد والخضوع للرؤى الغربية بنفس مقدار رفضه للجمود، فيجمع الإبداع والتجديد من ناحيتين، ناحية الانطلاق من فروض الواقع الإسلامي ذاته، في تراثه العريق وحاجاته المعاصرة، ومن ناحية الاستفادة من العصر الحديث.
وكذلك من العناية الكبيرة بالإنسان والأخذ به من تخوم الفردية والذاتية إلى الأخوّة الإسلامية بما تتحلى به تلك الروح، من إخلاص وجدّ ونزاهة، وبما تُلْزِم بذله من جهد مستنير يحقّق الأمن والطمأنينة والسلام.
ولقد وصل بنا البحث في هذا الكتاب إلى الاقتناع التامّ بأصالة هذا الفكر ونجاحه الباهر في الجمع بين التراث العريق والحاضر الدفّاق بالعمل والأخوة والمحبة والتطلّع إلى الغد المشرق.
ويبقى للإسلام فخرُه أنه يختزل الزمن، ويجمّع القوى الاجتماعية في بوتقة عمل تصهر جميع الفئات الاجتماعية والعناصر السكانية من أجل حاضر مُفْعَم بالسعادة ومستشرف لآفاق مستقبل مستنير، إن شاء الله.
اللهم لقد بلّغنا، اللهمّ فاشهد..
والله حسبنا، هو نعم المولى ونعم النصير.
المؤلف
لندن 1419 / 1998
1 ـ السياسة: 1 / 238 ـ 239 .
2 ـ الاقتصاد بين المشاكل والحلول: 7 ـ 8 .
3 ـ المصدر السابق: 8 ـ 9 .
4 ـ المرأة: 51. منابع الثقافة الإسلامية عدد: 19 / كربلاء المقدسة 1381 هـ .
5 ـ لمزيد من التفصيل انظر المصدر السابق .
6 ـ الاجتماع: 1 / 308 ـ 328 .
منذ أن ابتُلي العالم الإسلامي بحكومات تطبّق القانون الغربي، وتبني الدولة على أساس النظريات الاستعمارية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ظهر كثير من الباحثين يروجون للأفكار الاستعمارية، ويدّعون أنه لا يمكن بناء الدولة الحديثة إلا على أساس تلك النظريات، فأعلنوا، وبلا تحفّظ، انحيازهم إلى النظريات الاستعمارية زاعمين أنها هي النظريات الأفضل والتي على أساس الاقتراب منها، أو البعد عنها، تتحدد إمكانيات أي نظام أو سلطة سياسية في القيام بوظائفها التي يتوقّعها منها الاجتماع.
فإذا ما ظهر مفكّر حباه الله بالذكاء والإخلاص هاجمه أولئك الكتاب، فما بالك إذا كان هناك فقيه يستطيع أن يبني بفكره ورؤاه طريقاً يقود الفرد والاجتماع كله، إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة؟! طبعاً انهم سيحاربونه، وكأن أي تقدّم تحققه الأمة الإسلامية يضرّ بمصالح هؤلاء، وهذا انحياز غالباً ما تحكمه عاطفة معينة، وانسياق وراء مسلّمات أثبت الواقع بطلانها.
فتخرج مواقفهم على شروط البحث العلمي، متناقضة مع الواقعية التي لا يمكن من غيرها إنجاز مشروع دراسي يتعلق بالتفكير السياسي وتقييم النظريات غير الغربية التي نشأت في أرجاء العالم، فليس الغرب هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه العلوم وتعود إليه، والباحث إن لم ينتبه لذلك وقع في خلل منهجي وخاصة إذا لم يستطع التخلص من تلك المسلّمات المسبقة.
إضافة إلى أن التفكير السياسي، خارج إطار الدول الغربية، ليس من الضروري أن يكون متأثراً بالنظريات الغربية، فتاريخنا الإسلامي حافل بالتنظير السياسي، كما أن المعاصرين من مفكري الإسلام، ومن أبرزهم الإمام الشيرازي، قدموا فكراً سياسياً مستنيراً بحيث تأثر به علماء الغرب وأسسوا نظرياتهم على أساسه، مع ترقيعها برؤيتهم المادية، فظهرت وكأنها نقيض لذاك.
وتبرز حدة التناقض بين النظريات السياسية الغربية، والفكر السياسي المنبثق من مقولات إسلامية، بشكل كبير، في اختلاف التوجهات والأهداف والأساليب بين النمطين من التفكير والأداء، ضمن ما يعتبره الإسلام واجباً لا تراجع عنه، والذي ينبغي أن يحظى بموافقة ضمنية أو صريحة لأفراد المجتمع، على أن ذلك الرضا العام، ليس مطلوباً، بحد ذاته كهدف نهائي إلا بالتلازم مع طاعة الله وقيادة تتفهّم قوانين الإسلام وشروط التغيير، وطبيعة العلاقات داخل المجتمع، ثم المتغيرات النفسية والاجتماعية، لتستفيد من كل ذلك في بناء نظريتها السياسية الخاصة بها، بغض النظر عن توافقها مع هذا الرأي أو ذاك، أو مع الرأي العام في البلد، في المرحلة الأولى، حين لا يكون الوعي قد وصل إلى المرحلة التي تؤهل الناس إلى استيعاب مقولات ذلك الفكر، بفعل حملات التضليل التي يمارسها الحكام الدكتاتوريون وأعداء الإسلام في الداخل والخارج.
على أن يكون ذلك في إطار مرحلة ما، لا على أساس قانون شامل يهمل الرأي العام، لأن هذا القانون لا يمكن أن يخدم الإسلام، على الإطلاق في المراحل المتلاحقة لبناء دولة الإسلام وذلك باعتبار أن الدولة الإسلامية، في أساسها، متوجهة إلى الرأي العام، بهدف تطويره وإدماجه في عمليات التغيير المتواصل، فهدف الإسلام سعادة المجتمع في الدنيا والفوز في الآخرة.
وهذا لا يعني أن الاجتماع الإسلامي يجب أن ينقطع عن النظريات السياسية الغربية، بل على العكس من ذلك، فالواقع يثبت ازدياد ضرورة الاستفادة مما وصلت إليه العلوم في مسيرة تطورها، ومنها علم السياسة وما أضافه من إضافات جد خطيرة، فقد أنتج الغرب نظريات الديمقراطية والأحزاب وتداول السلطة وتحكّم الشركات والرساميل والاشتراكية، وغيرها.. مما يفرض الإطّلاع عليها، وربما الإفادة منها بما يُغني الواقع الإسلامي، خاصة إذا كان منسجماً مع الأصالة الإسلامية، بل أنّ كثيراً من أسس تلك الإنجازات موجودة في الإسلام وبشكل أرقى وأفضل.
إلا أن ما يجب أن نهتم به، هو اختيار أفضل المناهج والأساليب التي تنبثق من الإسلام نفسه، حسب الذي يراه فقهاء الإسلام أنفسهم لأنهم أكثر الناس تمعّناً بالفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية من جهة، وتأثيرهم في الفكر الغربي نفسه، من جهة أخرى، فلماذا نذهب إلى الفرع بدلاً من الأصل؟
ويمكن اعتبار دراسات الإمام الشيرازي من أفضل ما يمثل هذه الحقيقة الكبرى، فقد وضع نظريات سياسية لبناء الدولة الإسلامية وطريقة عملها ومنهجها والطريق الذي يوصل إليها ضمن ما سمّاه بالتغيير وذلك من غير اشتراط لتبني نظرية غربية معينة.
فإذا كان الغربيون رأوا أن الدين لا يبني دولة وليس له نظرية سياسية، فإنما ذلك رأي مبني على السلوك الكنسي، أما في الإسلام فإن هناك نظاماً متكاملاً وفقهاء فهموه ووضعوا له صياغته القانونية المناسبة.
وبالطبع، فهناك من يرى ضرورة الاعتماد على وجهة نظر غربية محددة لا يحق لأي أحد أن يتجاوزها مهما كانت الظروف، فيختار نظرية ما، بكل ما فيها من خلل واضطراب، ولعل أبرز الذين مثلوا هذا الاتجاه، هم الماركسيون، بمختلف فصائلهم وتعدد آرائهم، ولكن تطورات العالم قد أثبتت فشلهم، وخاصة، بعد انهيار المجتمع الذي ضيع من عمره سبعين عاماً من أجل محاولة تطبيق الماركسية، ثم اضطر إلى إعلان فشل نظريته في تحقيق الهدف المعلن عنه من وراء تطبيقها، مما تنبّأ به الإمام الشيرازي قبل أكثر من عشرين عاماً. فأيهما أحقّ بالاتباع أولئك الأدعياء، أم الرؤية السياسية الصائبة التي تنبّأت بسقوطهم؟!
لقد سقطت التطبيقات الاشتراكية في جميع أرجاء العالم، لا بسبب التدخل الأجنبي على ما كان يشيعه أنصار تلك التطبيقات والمستفيدون منها، وإنما لأسباب داخلية، تتعلق في فشل الماركسية وتوجهاتها، وأثبت ذلك أنه لا توجد نظرية تستطيع أن تجمّد الإنسان ضمن إطارها. فثمة خلافات واختلافات في الخصائص النفسية، وفي مراحل التطور والوعي، وفي طبيعة حاجات الناس اليومية.
إن دراسة تطورات التاريخ، وخاصة ما اكتشفه العلماء في دراساتهم عن اختلاف العادات والتقاليد بين الشعوب، أثبتت أن تلك الاختلافات التي هي مسألة جوهرية، لا يبدو أن الأفكار الوضعيّة تستطيع أن تحلّها، حتى يتطور العالم حضارياً، وتتصاعد العلاقات بين الشعوب والأمم، ويتبيّن العالم النهج الأصوب والأنفع والأجدى، والذي نراه متمثلاً في النهج الإسلامي الذي أنزله الله، تبارك وتعالى، هداية للبشرية، فخالق الناس أعلم بما ينفعهم وما يضرّهم، وتلك بديهية لا سبيل إلى إنكارها.
من هنا ينبغي أن تتجه البحوث المنصرفة إلى تحديد مميزات الفكر السياسي لدى أي شخصية علمية، خاصة، إلى البدء من تحليل رؤى تلك الشخصيّة نفسها، بكل ما في الكلمة من معنى، أي بدراسة منهجها في رسم النظام السياسي للمجتمع المأمول بجميع شرائحه وفصائله، ودراسة الموقف من القيادة السياسية، والحكومة والمؤسسات، ثم دراسة نشاط أبناء المجتمع المسلم، وعلاقتهم بالخطط التغييرية، ومدى اندماجهم في عمليات التغيير والوعي، بل ومدى تعبير تلك العمليات عن أهدافهم، وبخاصة على صعيد الهدف الاستراتيجي العام وهو تحقيق دولة الإسلام الواحدة في جميع أرجاء العالم، إذ لا وصول إلى الآمال بدون تحديد أهداف مرحلية وأهداف استراتيجية يمكن الوصول إليها، وبالطبع فإن هذا التحديد لا يمكن أن يتم من غير فكر سياسي، أو لا أقل من وجود نظرية سياسية.
ويفترض أن الأداء السياسي في العالم كله، يجب أن يهدف إلى مجموعة كبيرة من الأهداف التي يمكن إجمالها بكلمات قليلة وهي سعادة الإنسان، ووحدة المجتمع... ولا يمكن أبداً أن نتخيل دولة من غير أن تضع ذلك الهدف في صلب اهتماماتها الأولى وسعيها الدؤوب، ولكنّ الواقع يثبت فشل جميع حكومات العالم الحديث في الوصول إلى تلك الغاية، والأدلة كثيرة تشهد بشقاء البشرية، وازدياد تعاستها.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بحدود هذا البحث، ومنهجيته، فإننا لا نخطأ إذا قلنا إن الهدف الذي نستنبطه من كتابات الإمام الشيرازي، على ما سيأتي تفصيله، يكاد لا يتجاوز تحقيق سعادة الناس، ووحدة المجتمع الإسلامي.ولكنه يعطي لمفهوم سعادة الإنسان بُعداً أخروياً، أي أنّ الهدف هو رضوان الله جلّ وعلا، ونصل إلى هذه الحقيقة من خلال استنباط الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يرسيه الإمام الشيرازي على أسس الإسلام الحنيف، والذي يجد له انعكاسات معينة في جملة من أكثر النظريات السياسية العلمية احتراماً ورصانة، على ما سوف نثبت ذلك.ويمكن أن نذكر اقتراح العالم الاجتماعي ف. بوريكو بأن يتم تحديد علم السياسة
(كمجموعة من العمليات المتطورة يحقق المجتمع بواسطتها وحدته) لنرى أنه قد أخذه من دراسته للفكر السياسي الشيرازي، من خلال فهمه لتبنّي الإمام الشيرازي لوحدة الاجتماع، خاصة وأن البلاد الإسلامية مكوّنة في الأساس من مجموعة من المجتمعات الصغيرة، القبيلة، والأسرة، والمنطقة الجغرافية.. وغيرها.. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه البلاد الإسلامية مقسمة إلى جغرافية سياسية منوّعة، ونكاد نقول غير متوافقة، بفعل انقطاع التواصل المطلوب بين الشعوب، وبفعل اغتصاب الظالمين والديكتاتوريين للسلطة، وبفعل خلافات الحكومات ومشاكل التنمية العرجاء والتغريب المتواصل.. هذه البلاد الإسلامية المتفرّقة تستطيع إعادة صياغة وحدة الاجتماع، لا على أساس نظري فحسب، وإنما، أيضاً على أساس تطبيقي عملي.
إننا حين نربط معيار نجاح الفكر السياسي بتحقيق وحدة الاجتماع برغم كل المعوقات، نوفّر إمكانية تطبيقية هائلة لاستنباط ملامح الفكر السياسي الشيرازي الذي يتبنّى تلك النتيجة الباهرة المتمثّلة بإقامة دولة الإسلام الواحدة.
إن هذا المنطلق لدراسة فكر ومنهج الإمام الشيرازي مكّننا في هذا البحث، من النظر إلى مسائل بحثها سماحته وتعتبر من أسس علم بناء الدولة في العصر الحديث، وذلك من الوحدات الصغيرة ـ بحسب تعبير الإمام الشيرازي نفسه ـ كإدارة العائلة الصغيرة ثم العائلة الكبيرة حتى المشاريع الأكثر طموحاً: كإنشاء الحكومة، والمؤسسات الاقتصادية، وتنظيم القوات المسلحة بكل فصائلها.. إلخ.. حيث إن كل هذه المشاريع هي تقسيم جديد للمجتمع، ولكنه تقسيم يصب في إطار وحدة الاجتماع، ويزيد من ترسيخها مع إدراكنا بأن كثيراً من الحكومات في العالم الإسلامي قد حولت مجتمعاتها إلى قوى متناحرة، من عسكرية، ومخابرات داخلية، وقوى حكومية ومؤسساتية، فمزّقت المجتمع، إذ أنها كوّنت طبقة عسكرية مترفّعة، وطبقات اجتماعية متفاوتة جداً. غير أنّ رؤية الإمام الشيرازي إلى هذه التقسيمات تحوّلها إلى زيادة وحدة المجتمع المسلم، واستطاع الإمام الشيرازي، أن يرسخ وحدة الاجتماع من خلال تطوير الأفراد والجماعات، وفهم جيداً التحديات التي تواجهه على أرض الواقع الحالي، كالديكتاتورية والاستعمار وغيرها، ثم إن ذلك الفكر استطاع أن يوجه الناس نحو الأهداف العليا. حتى أننا لا نستطيع إنكار أن الاستفادة من العقبات ميزة من أبرز ميزات الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي للإمام الشيرازي. وربما كان هذا عائداً ـ في جانب من أهم جوانبه ـ إلى المعايير الخلقية التي تحكم مسار ذلك الفكر.
إن الإمام الشيرازي لا يريد منا أن نعود إلى المفهوم القديم للدولة الأموية والعبّاسية، بمقدار ما يريد ترسيخ الخطوات التغييرية، ورفع مستوى المجتمع لأداء الوظائف السياسية التي على السلطة الحديثة واجب تنفيذها وتحقيقها، عبر جميع الطرق والأساليب المنسجمة مع الشرعية والصلاحية التي تتمتع بها الدولة الإسلامية، وهذا ما استفاد منه، بكل تأكيد، كثير من علماء السياسة المعاصرين، على ما سنذكره في موضعه.
إن عملية تطبيقية، بهذا المدى، وفي مؤلفات الإمام الشيرازي بالذات، ومعاناته الشخصية في أكثر من بلد في هذا العالم، ستثير في نفوس الباحثين الانبهار، وتجعلهم خاضعين لرؤاه، وخاصّة حين يعايشون الإمام الشيرازي عن قرب، ويطّلعون على صفاته الشخصية. ويمكن الاستفادة من هذه المشاعر مع استخدام أسلوب التحليل العلمي للفكر وتأثيره في الزمن الحالي والمستقبلي. في نفس الوقت نجد أن العالم الإسلامي يمرّ بمرحلة حرجة جداً، فهناك سقوط أخلاقي رهيب في بعض البلدان، وهناك تجارة بالشعارات باسم الثورية تارة وباسم القومية تارة، وباسم الاشتراكية حيناً، وباسم الديمقراطية أحياناً، ثم باسم تحرير فلسطين التي يعطونها بعداً قومياً لا مبرر له، ولم يستطيعوا عن طريقه الوصول إلى أي نتيجة، والأجدر بهم تحرير أنفسهم أولاً من التبعية للدول الاستعمارية.
ويحدد الإمام الشيرازي كل ذلك الانهيار ويرى أن حال هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به حالها أولاً عبر التجربة التاريخية نفسها، أي بالإسلام والإسلام فقط.
إن المراقبة الواعية لمجريات ما حصل ويحصل على الأرض الإسلامية، وازدياد الوعي العام بضرورة الدولة الإسلامية الواحدة، يشجع الباحثين المخلصين على المضي في دراسة فكر الإمام الشيرازي، من غير اكتفاء بالجانب النظري، لأن الفكر السياسي الشيرازي بجوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يجد مصاديقه في الواقع، بل لا نغالي إذا قلنا إن ذلك الفكر هو تعبير عن واقع معاش بكل مرارته وأحلامه، وهو أيضاً تنظير لواقع مأمول سرعان ما سيصبح معاشاً، بصورة تنفي أي صورة من صور الاختلاف بين الشعار والتطبيق، كما يلغي، بالتالي، إمكانية التناقض بين الأمرين.
هناك، وقبل أي أمر آخر، حقيقة علمية يفرضها هذا البحث، ويلتزم بها الباحثون الجادّون، بل ويتبنونها، وهي الاقتراب أكثر فأكثر من سماحة الإمام الشيرازي نفسه.
إن هذا الاقتراب يفتح آفاقاً ضرورية لفهم الإمام الشيرازي وأفكاره المستنيرة، ولنتبين شرعية القيادة السياسية، وطبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي، باختلاف مكانتهم ومنزلتهم الاجتماعية، ودورهم في عملية التغيير، مما يعني معرفة مدى النجاح في تحقيق الأهداف الحقيقية للدولة الإسلامية، خاصة في تكامل المجتمع، والتحام المواطنين مع بعضهم البعض.
وقد ساعدت نصوص مؤلفات الإمام الشيرازي على استنباط هذه القاعدة التي تجري بموجبها عملية النهضة التغييرية. وذلك مما يقدم مساعدة كبيرة في إنجاح عملية التغيير، بفعل الإرادة المبدئية القوية التي تقود مسلمي العالم نحو غدهم المرتقب، ومن خلال ما يقدمونه على الصعيدين النظري والعملي، وتمكّنهم من التعرف على ملامح الفكر الإسلامي بصياغة جديدة يقوم بها الإمام الشيرازي، ودورهم هم في صناعة الغد، بفعل طواعية الاندماج في العملية التغييرية، والشعور بالمسؤولية. وبهذا يمكن الاستدلال على وجود رأي عام، وقناعة شعبية عامة، بضرورة تبني ذلك الفكر الموصل إلى تحقيق حكومة ألف مليون مسلم.
وإذا قبلنا هذه المنطلقات المعتمدة على الانبثاق من الواقع الإسلامي نفسه، والمطّلعة على أحوال العالم، فإن النتيجة الحتمية التي سنصل إليها هي أن السلطة السياسية في دولة الإسلام، لا تقتصر على جانب من جوانب المجتمع المسلم، بل هي حاصل دمج واع بين الفقهاء، والحكومة، وسائر أبناء الاجتماع. وتدل التجارب التاريخية على أن التواصل الخلاق بين جميع أبناء الاجتماع حاكمين ومحكومين، هو عملية منبثقة من النظرة الإسلامية للمجتمع الذي عنه تنبثق الحكومة، بالدرجة الأولى، من غير إغفال لدور الظروف الموضوعية التي يولّدها الوعي، أو تلك التي تساعد على تطويره مما يندرج في العادات والتقاليد، ما كان موروثاً منها، وما كان جديداً، لأنهما، معاً، نتاج البيئة وما فيها من أخلاقيات، سواء على الصعيد الشخصي أم على الصعيد الاجتماعي، نعني بذلك كلاً من المكونات الذاتية لطبيعة العلاقات الشخصية بين الناس، وطبيعة علاقاتهم ككل مع القيادة السياسية للدولة الإسلامية.
كما أن هذه النظرة ستفتح أمامنا آفاقاً لا تحد لفهم دور القوانين الإسلامية، في تنظيم المسيرة العامة للبلاد الإسلامية الموحّدة.. إضافة إلى استبيان الطاعة التي يظهرها المجتمع للقيادة التي تطبّق إرادة الله، سبحانه وتعالى، والتي تستطيع أن تستثمر ثقة الناس بها في ترسيخ دور القانون الإسلامي في النهوض بالمجتمع، كأفراد، وجماعات، وعناصر سكانية، وكمناطق جغرافية متنوعة، وكمذاهب، ثم كمجتمع موحد ومتماسك، للتقدم عبر العمل المثمر البنّاء الذي هو مصداق للشعارات الإسلامية وليس نقيضاً لها.
وإذا كان هناك اعتراف ضمني أحياناً وصريح أحياناً كثيرة، من أن المفكر السياسي يواجه صعوبة بالغة، في تقويمه للنشاط السياسي في أي بلد من البلدان، ولدى أية شخصية من الشخصيات، وخاصة في ظروف العالم الإسلامي المختلف والمتنازع كثيراً هي غموض وسائل البحث والاستقصاء، إضافة إلى قلّة الإمكانيات، والحصار الذي يتعرض له كثير من حملة الفكر الحر من الفقهاء والمثقفين وغيرهم، وقلة الشواهد والاستبيانات المساعدة على تصور أكثر نضجاً للأهداف السياسية والركائز الفكرية، فإن كتابات الإمام الشيرازي ورؤاه التنظيرية، برغم الحصار المفروض على سماحته، تقدم برهاناً عملياً مشاهداً وملموساً على إمكانية نجاح عملية تقويم الأداء السياسي للمجتمع المسلم المأمول الوصول إليه، ويعنينا من كل ذلك، هنا، الفكر السياسي وأساليب تنفيذه، ووصوله إلى مستوى الكفاءة لغرض تحقيق الأهداف المرجوة منه، بحيث يستطيع الباحث، اليوم، وبشيء من الجد والتضحية اللازمة، أن يجد قناعاته ورؤاه في ملامح ذلك الفكر، من خلال الملاحظة والتحليل الموضوعي.
ونعتقد أن هذه الأسباب قدمت فائدة كبيرة لهذه الدراسة، ووفرت إمكانيات جيدة للتطبيق، سواء في مستوى البحث عن الجذور والاستمرارية والتحليل، أم على مستوى الدراسات الإحصائية، مما تعنى به التقارير والدراسات السياسية الأخرى.
أما الإمام الشيرازي، الذي هو محور هذا البحث، فهو السيد محمد المهدي الحسيني الشيرازي.. الذي يهيئ مهاداً قوياً للعمل التغييري باتجاه تكوين دولة الإسلام الواحدة في جميع أرجاء العالم، مما هو مدعاة لافتخار كل مسلم على وجه الأرض.
وهنا ملاحظة لابد من إبدائها، وهي أن للسيد الإمام الشيرازي ما يزيد عن سبعمائة كتاب، تتداخل موضوعاتها بين الفقه والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون وغيرها.. ولم نكن، في هذا البحث نريد إعادة ما ذكره سماحته في كتبه، ولا إلى عرض تلك الكتب، فذلك مما لا يمكن تحقيقه لا من قبل باحث واحد ولا من قبل عشرات الباحثين، لذا كان همّنا الأساسي متجسّداً في الكشف عن منهجيّة سماحته، وجوهر أفكاره، وإعادة تمثّل رؤاه، بأسلوب أكاديمي بحثيّ عصري يستجلي أهداف فكر سماحته، عسى أن تستفيد الأمة الإسلامية من هذه الاستخلاصات الدقيقة لتبني حاضراً أفضل ومستقبلاً هانئاً سعيداً..
وكان من المقرر أن نصدر كتاباً مستقلاً لكل من السياسة والاجتماع والاقتصاد حسب منهج الإمام الشيرازي في بحث موضوع الدولة الإسلامية.
وكان مبررنا المشروع في ذلك أن للإمام الشيرازي رؤيته الثاقبة لكل من هذه المجالات الحيوية الثلاثة.
ولكن حين بدأنا البحث رأينا الإمام الشيرازي لا ينظر إلى هذه الموضوعات نظرة مستقلة بكل واحد منها، بل هو يربط السياسة بالاقتصاد بالاجتماع ربطاً محكماً، فالاقتصاد عند سماحته، مثلاً، ليس علماً مستقلاً أو منفصلاً عن الاجتماع، وخاصة أنه يؤكد على بعده الاجتماعي ويمنحه الخصائص الأخلاقية، فيكون الاقتصاد جزءً من الاجتماع، فلا اجتماع بلا اقتصاد ولا اقتصاد بلا اجتماع، وكلاهما ليس له وجود حقيقي حين لا تكون هناك أخلاق وسياسة إسلامية.
لذلك وجدنا أنفسنا أمام اكتشافات فكرية جديدة تماماً على الفكر الإنساني في كل من تلك الميادين الثلاثة، ففي السياسة بمفهومها العلمي نجد سماحته يعتبر السياسة علماً أخلاقياً قبل كل شيء، وفي الاجتماع نجد ممارسة التغيير وشروط الأمن والسلام، وفي الاقتصاد نجد نظرية المصرف الإسلامي (البنك الإسلامي) ونظرية النقد، ونظرية (الاقتصاد الاجتماعي) وهذه من الأمور التي لم يلتفت إليها أحد قبل الإمام الشيرازي. فقد كتب مفكرون كثيرون في السياسة وكتب آخرون في الاجتماع، وهناك من كتب في الاقتصاد، فنجد بحوثاً في الاقتصاد المقارن، وللإمام نفسه بحث في هذا الموضوع، وهناك (الاقتصاد السياسي) أما (الاقتصاد الاجتماعي) فلم نر أحداً من الباحثين قبل الإمام الشيرازي قد تطرّق إليه، وهذا ما ذكره سماحته في الميدانين الآخرين، أي السياسة والاجتماع.
ولذا قر رأينا على أن نتناول السياسة والاجتماع والاقتصاد معاً بناء على منهج الإمام الشيرازي في دراسة الموضوعات المذكورة.
والحقيقة أن متابعة أي موضوع من هذه الموضوعات، من وجهة نظر الإمام الشيرازي سيقودنا إلى الموضوعين الآخرين، فأي بحث في السياسة الداخلية أو الخارجية للدولة سيؤدي بنا إلى النظر في الاجتماع والاقتصاد، وهكذا حيث البحث في الاجتماع والاقتصاد، حيث نجد أنفسنا مسوقين للحديث عن علم السياسة، فهناك عرى وثيقة بين جميع هذه الموضوعات بفعل أنها جميعاً تنبعث من جوهر فكري واحد هو الشريعة الإسلامية التي تمثل بؤرة أساسية في تفكير الإمام الشيرازي، ومنها تنطلق أشعة تسير على هديها جميع المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكلها تقوم عند سماحته على أساس الأخلاق.
وإذا كان لابد من شواهد للتدليل على هذه الرؤية فننقل هنا نصوصاً، دالة على ذلك الترابط:
* الأول: من كتاب (السياسة) لسماحة الإمام، وفي النص علاقة واضحة بين الموضوعات الثلاثة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث يقول:
(السياسة هي عبارة عن إعمال القدرة، وأن القدرة حقيقة واحدة لها مظاهر، وأن بعض أقسام إعمال القدرة مصلح، وبعضه مفسد فأهم ما يجب أن يبحث عنه في علم السياسة أمور ثلاثة: الأول: ما نوع السياسة الذي يجب أن يسود المجتمع حتى يوفر أكبر قدر من الخير لأكبر كمية من أفراد المجتمع. وإنما لم نقل كل أفراد المجتمع لأن الغالب، إن لم يكن الدائم، تضارب مصالح المجتمع، حقيقة، ولا أقل من زعم التضارب عند جماعات من الناس، فلا يمكن أن يعم الخير في المفهوم العرفي، الجميع. (وهذا ربط واضح للموضوع السياسي بكل من الاجتماع والاقتصاد، وفي نفس الوقت ربط لهذين العلمين بعلم السياسة، ويواصل سماحته):
مثلاً: في الحال الحاضر، النظام الرأسمالي، تتضارب فيه مصلحة كبار الأثرياء مع مصلحة الطبقة العاملة، والنظام الشيوعي تتضارب فيه مصلحة الطبقة الحاكمة المالكة للثروة والقدرة مع مصلحة بقية الشعب، والنظام الديمقراطي تتضارب فيه مصلحة الأحزاب بعضها مع بعض، إذ كلّ يريد تنفيذ برنامجه والوصول إلى الحكم، والنظام الديكتاتوري تتضارب فيه مصلحة الديكتاتور ومصلحة الشعب، إلى غير ذلك.
الثاني: ما هي الوسائل التي تصطنعها الدولة لتنفيذ هذه السياسة، إذ قد تختلف الوسائل مع وحدة الهدف...
الثالث: ما هو نوع التأثير الذي يمكن أن يكون لنا في اختيار هذه السياسة واختيار هذه الوسائل.... فالبحث السياسي قرار، وكيفية تنفيذ ونتائج تترتب على القرار، وكلاً من الثلاثة لها أشكال، ولذا يجب أن يبحث السياسي عن ما هو القرار الملائم؟ وعن ما هو التنفيذ الملائم لهذا القرار؟ وعن ما هو الأثر الذي يتوخّاه من هذا القرار؟)(1).
* الثاني: وهنا نص آخر، ولكنه اقتصادي، يتوضّح فيه الربط بين الاقتصاد والاجتماع، ثم ننقل نصاً ثالثاً من أوائل الكتابات الاجتماعية للإمام الشيرازي حيث يتوضّح الربط لا بين الاقتصاد والاجتماع، هذه المرة، بل بين الاجتماع والاقتصاد، وبمعنى آخر، أنه لا فصل بين الاثنين أبداً.
فأما النص الاقتصادي، فقد ورد في مقدمة كتاب (الاقتصاد بين المشاكل والحلول) حيث يقول سماحته:
(الاقتصاد هو عصب هامّ للحياة، وتقاس الأمم، فيما تقاس، باقتصادها. فالأمم الفقيرة تسحقها أنياب الزمن، وتطحنها عجلات الدهر، فلا يبقى لها اسم ولا رسم. ونحن عندما نقرأ التاريخ لا نرى شيئاً يذكر عن الأمم الفقيرة، لأن التاريخ هو، عادة، سرد لحياة الأمم المتحضرة. والحضارة اقترنت بالاقتصاد، فهي كالإنسان الحي يولد ثم يكبر ثم تستولي عليه الشيخوخة. وهي جسد وروح، جسدها الاقتصاد وروحها الأخلاق.
وإذا نظرنا اليوم (يقول الإمام الشيرازي) إلى الحضارة الغربية لوجدناها جسداً بلا روح، لأنها حضارة تمتلك الاقتصاد وحده من دون الأخلاق، فكان نتاج ذلك الربا والاحتكار والاستغلال والحروب. فالاقتصاد بلا أخلاق يتحول إلى معول للهدم وعامل للتدمير)(2).
وبعد أن يستعرض سماحته الويلات التي جرّها الاستعمار على العالم الإسلامي وغيره نتيجة النظرة الاقتصادية المبتعدة عن الأخلاق، يقرر:
(وإذا ما أعدنا النظر ثانية لوجدنا أن عالمنا اليوم هو أحوج ما يكون إلى اقتصاد سليم قائم على شريعة سمحاء ومُثُل سامية وأخلاق نبيلة.
اقتصاد هدفه إسعاد البشرية جمعاء، وليس تحويلهم إلى بهائم يأكلون ويشربون.
اقتصاد ينظر إلى الجميع نظرة مساواة، كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أسود على أبيض.
اقتصاد نابع من وجدان الإنسان، قادر على تفهّم مشاكله، ويستطيع أن يضع الحلول الناجحة لها. ومثل هذا الاقتصاد لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل الإسلام)(3).
فهل هناك شك في ما قررناه قبل قليل من أن الإمام الشيرازي قد ابتكر علماً جديداً هو (الاقتصاد الاجتماعي) حين ربط قضايا الاقتصاد بالأخلاق وجعلهما يتحركان في أجواء الاجتماع تحركاً حراً مسؤولاً؟!
* الثالث: وإذا كان ذلك النص يتعلّق ببحث اقتصادي فلننظر إلى نص آخر يتحرك هذه المرة في إطار الاجتماع، وهو بحث لسماحة الإمام عن المرأة نشره قبل أربعين عاماً في سلسلة منابع الثقافة الإسلامية، ونمعن النظر في أثر الاقتصاد فيه، قال سماحته:
(المرأة.. موضوع كثر الكلام حوله.
وغالب الكتّاب الإسلاميين الداعين إلى الفضيلة والعفاف، يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام، وحال المرأة في ظلّ الإسلام.
وهي مقارنة صحيحة.. لكنّ الكلام لا ينتهي عند هذا الحد.
إننا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي، وبين المرأة في المجتمع الغربي.
ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنما نريد عرض طرف من حقوق المرأة في المجتمعين، لنرى هل راحة المرأة جسدياً وفكرياً، وصحتها وثقافتها ونظافة سمعتها وإشباع غرائزها وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه، في ظلّ الإسلام أم في ظلّ الكفر)(4).
أي أنّ سماحته ينظر إلى قضية المرأة، وبالتالي، إلى قضية المجتمع كله، بناءً على:
* حقوق الإنسان، المعبّر عنها هنا بالراحة الجسدية والفكرية والصحة والثقافة، وإشباع الرغبات أو الغرائز المشروعة.
* من زاوية الأخلاق، المعبّر عنها هنا بنظافة السمعة وطهارة المجتمع.
وعلى هذه المنطلقات يشيّد الإمام الشيرازي، رؤيته للموضوع:
(تعيش المرأة في ظلّ الإسلام، ولها من الحقوق والواجبات مثل ما على الرجل من الحقوق والواجبات، فهي شقّ له في كلّ شيء.. إلا بعض الأمور التي استثنيت من جهة عدم المقتضى، أو وجود مانع.
فهي تشارك الرجل في الصلاة والصيام والخمس والزكاة والحج والجهاد.
ولكن، حيث إنّ لها وظائف بيتيّة، بالإضافة إلى خشونة الجهاد الذي لا يناسب ضعفها، ودقة جهازها، ووفرة مشاعرها الرقيقة، لا يحمّلها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في الضرورة فقط، وهذا مشروح في كتب الفقه.
كما تشاركه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وولاية الصالحين والبراءة من المجرمين.
هذا بالنسبة إلى العبادة، أما المعاملة بمعناها الوسيع، فلها التجارة والرهن والضمان والوديعة والمزارعة والمساقات والمضاربة والشركة والصلح والعارية والإجارة والوكالة والوقف والهبة والوصية، كما يجري عليها الحجر والفلس..
ولها النكاح والطلاق (إذا اشترطت) والنذر والحلف والعهد والعتق والتدبير والمكاتبة والإقرار والجعالة والصيد والذباحة والشفعة وإحياء الموات واللقطة والديات والقصاص والإرث..
كما أنّ الطعام والشراب بالنسبة إليها كسائر الرجال.
وغير ذلك..
نعم لها بعض أحكام خاصّة في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة، مثلاً في الإرث لها أقلّ من حقّ الرجل لأنّ الرجل هو القائم بالنفقة وعليه تبعة المسكن والملبس.
وليس الطلاق بيدها على الإطلاق، لأنّ حقّ القيمومة للرجل وذلك لأنّ إدارة البيت لابدّ أن توكل إلى واحد، وحزم الرجل أكثر من المرأة، ولذا جعلت إليه، وفي قبال هذا الواجب جعل حقّ الطلاق لتتكافأ الحقوق والواجبات.
وهكذا.. وهكذا..
وقد كانت المرأة في ظلّ الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفّهة لها حقوقها وعليها واجباتها.. حتى جاء الغرب فرآها محرومة عن (حقين)! فدافع بكلّ ما أوتي من حول وطول، لإرجاع الحقّين! إليها).
ثم يبيّن الإمام الشيرازي ما يسمونه بـ (الحقّين) ويناقشهما مناقشة علميّة هادئة، مستشهداً بأقوال علماء الغرب أنفسهم، مبيّناً أنّ (الحقين) المزعومين هما الاباحية وانتهاك جسد المرأة وإشغالها بما لا يلائم طبيعتها(5).
وواضحٌ أنّ هذا النصّ، ومجال بحثه المرأة، لا يتناسى البعدين الاقتصادي، والسياسي للموضوع، بل يدخلهما في صلب معالجته لحقوق المرأة الاقتصادية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حقوقها الأخرى.
بل أن سماحته يعقد فصلاً مستقلاً في كتابه (الاجتماع) يجعل عنوانه (الاقتصاد الاجتماعي)(6) وفيه فصّل الكلام في هذا الموضوع، وأزال أي شك في مدى التطوير الذي أدخله سماحته على الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، حين مزج بين الأمرين وخرج منهما بموضوع جديد ورؤية جديدة.
هكذا نرى أنّ الإمام الشيرازي لا يكتفي، وهو الفقيه المعروف، بمسائل الفقه وتحديداتها، بل يتجاوز ذلك إلى أحاديث لها علاقتها بالحياة الاجتماعية العامّة، سواء ما تعلّق منها بالرجل أم بالمرأة، بالأطفال أم بالشباب، بالاجتماع أم بالاقتصاد.
ومن هنا يأتي اهتمامنا بفكر سماحته في نواحيه المتعددة الجوانب والاجتهادات في السياسة والاجتماع والاقتصاد. فلا مسوّغ لمن يريد أن يسأل عن سبب الاهتمام بالإمام الشيرازي، ومنهجه وفكره.
ونحن حين نقرّر هذا إنما نجيب على أسئلة قد يوجهها بعض من لم يتعرّفوا على الإسلام وأخلاقياته، بشكل كافٍ، وذلك لأن العلماء والفقهاء يستحقّون ما هو أكبر من ذلك، يستحقون الاتّباع والحرية الحقيقية في قيادة الأمة، واتاحة الفرصة أمامهم كاملة ليؤدوا دورهم في توعية الناس. إنّ علينا أن نسير معهم ونفهم آراءهم لكي تتوحّد مسيرتنا بقيادتهم الشرعية المتمثلة اليوم في بضعة رجال قلائل يقف في مقدمتهم سماحة الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، ليحتلّ مكانة رفيعة في عالم اليوم، بالرغم من كل أنواع الحصارات والإشاعات التي واجهها، سماحته، طيلة مسيرته الإسلامية الشاملة، برحابة صدر وسماحة نفس، وتلك هي أخلاق العلماء الكبار، في كلّ العصور.
إننا نريد من وراء هذه البحوث أن نكشف عن منهج ناضج من مناهج العلماء المسلمين، لما فيه خير هذه الأمة في حاضرها ومستقبلها، هذا من جهة..
ومن جهة أخرى.
فإن نظريات الإمام الشيرازي، تهدف إلى تغيير الواقع في العالم الإسلامي، بل في العالم كلّه، نحو الأفضل لأنها حصيلة الفهم الواعي للإسلام بمصادر تشريعه الأربعة (القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة والإجماع والعقل) وتاريخه الحافل وتراثه العظيم، إضافة إلى فهم العصر الحديث والتغيرات الكبيرة الحاصلة فيه، ما بين شيء إيجابي وآلاف الأشياء السلبية الضارة فإن المشاكل والمآسي التي يتخبّط بها العالم اليوم لا مجال لها في ظلال دولة الإسلام المأمولة.
وحسب رؤية الإمام الشيرازي فإن الأمر في حالة تطبيق الإسلام يجري على وجه آخر، وبعبارة أكثر دقة، على وجه ترتضيه الشريعة الإسلامية السمحاء التي فيها جميع سنن وقوانين التطور. وآية ذلك كتابات التاريخ التي تثبت أن المسلمين، برغم فقرهم وصعوبة ظروف حياتهم، استطاعوا وبفترة وجيزة وقصيرة، من التاريخ، أن يعبروا إلى مستوى متطور من بناء دولة الإسلام ومجتمعها المتماسك واقتصادها المتين. وذلك تميّز عائد إلى جملة مسائل على أقصى درجات الأهمية، وهي:
أولاً: ان نظرة الأديان إلى الدنيا تنطلق من الإقرار بأن تلك الدنيا وما فيها من الثروات، هي مسألة وقتية زائلة، ولا يصحّ الاكتفاء بها ولا الاعتماد عليها، بل يجب أن تكون جسراً إلى الآخرة.
ولقد تكررت هذه الرؤية في كتابات الإمام الشيرازي حتى أصبحت مظهراً من مظاهر تطوّر الفكر الإسلامي في العصر الحديث.
إن الإمام الشيرازي قد كشف بشكل واضح وجريء أن هدف كل الأعمال الحصول على رضوان الله، تبارك وتعالى. فأصبح لازماً تحقيق رسالة الإسلام في الأخوة والمحبة والتعاون والتكافل الاجتماعي، وبذلك يكون هدف التغيير هو المجتمع الإسلامي ذاته. فما دام الفرد المسلم والاجتماع الإسلامي هو هدف تلك العملية فلابد أن يقوم كل واحد بواجباته التي حددتها له الشريعة وأوضحها بكل جلاء الإمام الشيرازي في بحوثه المتنوعة. وبذلك فتح الإمام الشيرازي أبواب المستقبل أمام الفرد المسلم ليتمتّع بثمار عمله، على ما سنلاحظه بجلاء في فصول هذا الكتاب.
وهكذا يقودنا الإمام الشيرازي لنفهم أنّ النهضة الإسلامية، بمرتكزاتها ووسائلها وأهدافها، تؤدي إلى مزيد من الكشف عن مكامن إبداع الفرد المسلم فيها، ومنزلته في تطوير نفسه وأهله وجميع أبناء مجتمعه.
هذا الكتاب يهدف إلى دراسة فكر الإمام الشيرازي ومنهجه في السياسة والاجتماع والاقتصاد، من خلال مؤلفات سماحته التي كشف فيها عن أصالة ذلك الفكر ومكوناته الأساسية التي هي (الشريعة) والأشعة المنطلقة منها، كما سنتبينه في دراستنا لأسس فكر سماحته، حصولاً على حقوق الأفراد والجماعات، وتحديداً لواجبات كل مجموعة من أبناء الاجتماع، كي يؤدي كل واحد وواحدة جميع تلك الواجبات التي على المسلم أن يؤديها تجاه نفسه وعائلته وجميع أبناء أمته. وقد رأينا قبل قليل أن سماحته يتحدث عن حقوق المرأة وواجباتها ويجعل كلاً منهما سبباً ونتيجة للثانية، وكذلك ما سنراه من نظرته إلى مكوّنات المجتمع الأخرى كالشباب والأطفال وحتى الرجال المكلفين تكليفاً شرعياً، وما التكليف الشرعي إلا واجب لا مفر من أدائه.
لقد اتّخذ الكتاب طريقة منهجية علمية في تحديد مساره بضمن الكتابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للإمام الشيرازي سواء ما تجلى منها في البحوث التي كتبها سماحته، أم في الممارسة العملية التاريخية لرجالات الإسلام، مقترباً في لغته وتحليلاته من روح ونصوص البحوث الشيرازية نفسها، لأنها أقدر في التعبير عن ذاتها بذاتها.
والتزم البحث بما يقتضيه المنهج العلمي من موضوعية تامة في النظر إلى المسائل والقضايا موضوعة الدرس والمتابعة.
وإذا كان هناك باحثون يتحدثون عن الصعوبات التي واجهتهم في بحوثهم، فأحمد الله أن مثل تلك الصعوبات لم يعاني منها هذا البحث الموسّع عن فكر سماحة الإمام الشيرازي، فما استطعت توفيره من كتب سماحته قد فرش طريق البحث بالنظريات الصائبة الميسّرة والتي زاد من يسرها الأمثلة التي كان سماحته حريصاً على ذكرها، وكذلك الشواهد التاريخية الجمّة التي سهّلت الكثير من موارد نظريات سماحته، وأعطتها أبعادها التاريخية.
إضافة إلى هذا يقتضيني البحث العلمي إلى أن أذكر أني أفدت من دراسات الفقهاء المسلمين للقضايا ذات العلاقة بموضوع هذا البحث، وخاصة في رسائلهم الفقهية، أثابهم الله بخير ثوابه وأجزل لهم الإحسان على جهودهم المضنية.
ومن ناحية ثانية قدمت لي دراسات معاصرة عن السياسة والاجتماع والاقتصاد في بعض دول العالم الإسلامي إفادات منهجية جمة، وأخص بالذكر ما كتبه الدكتور خلدون النقيب عن دول الخليج، والدكتور محمد عابد الجابري عن الخطاب السياسي المعاصر، وما كتبه الدكتور هادي حسن حمودي عن سلطنة عُمان، وما كتبه حسين القهواتي عن التجارة في الخليج، ومجيد الماجد عن أزمة السياسة والشريعة في بعض الدول العربية. فهذه المؤلفات قدمت لي ذخيرة منهجية جيدة فهي تدور في إطار دول من العالم الإسلامي، بحيث تسهل المقارنة بين رؤى الإمام الشيرازي وبين ما يحدث في دول العالم الإسلامي المعاصرة، وتلك المقارنة تشير إلى الصواب والخطأ في التجارب الحديثة.
أما المصادر الإنجليزية التي أفدت منها، فهي ما بين كتب في علم السياسة، وكتب في الاقتصاد، وأخرى في الاجتماع، وقد استشهدت ببعضها حيناً، وناقشت بعضها حيناً آخر، وقارنت بين ما جاء به كتابها وبين كتابات سماحة الإمام الشيرازي، ووصلت إلى قناعة تامة بأن كتابات سماحته قد أثّرت في كثير منهم، حتى وإن كابروا ولم يعترفوا بذلك، كما أن بعضهم قد انتقى من سماحته بعضاً وترك بعضاً، وذلك بناء على توجهات ذلك البعض وانتماءاتهم الفكرية، ومصالح دولهم، وقد أشرت إلى تلك البحوث في الحواشي التي وضعتها في آخر الكتاب منظّمة على أساس تسلسل الفصول في الكتاب.
وبعد:
فإن الأخذ بما يقوله الإمام الشيرازي، يحرّر المرء المسلم من التقليد والخضوع للرؤى الغربية بنفس مقدار رفضه للجمود، فيجمع الإبداع والتجديد من ناحيتين، ناحية الانطلاق من فروض الواقع الإسلامي ذاته، في تراثه العريق وحاجاته المعاصرة، ومن ناحية الاستفادة من العصر الحديث.
وكذلك من العناية الكبيرة بالإنسان والأخذ به من تخوم الفردية والذاتية إلى الأخوّة الإسلامية بما تتحلى به تلك الروح، من إخلاص وجدّ ونزاهة، وبما تُلْزِم بذله من جهد مستنير يحقّق الأمن والطمأنينة والسلام.
ولقد وصل بنا البحث في هذا الكتاب إلى الاقتناع التامّ بأصالة هذا الفكر ونجاحه الباهر في الجمع بين التراث العريق والحاضر الدفّاق بالعمل والأخوة والمحبة والتطلّع إلى الغد المشرق.
ويبقى للإسلام فخرُه أنه يختزل الزمن، ويجمّع القوى الاجتماعية في بوتقة عمل تصهر جميع الفئات الاجتماعية والعناصر السكانية من أجل حاضر مُفْعَم بالسعادة ومستشرف لآفاق مستقبل مستنير، إن شاء الله.
اللهم لقد بلّغنا، اللهمّ فاشهد..
والله حسبنا، هو نعم المولى ونعم النصير.
المؤلف
لندن 1419 / 1998
1 ـ السياسة: 1 / 238 ـ 239 .
2 ـ الاقتصاد بين المشاكل والحلول: 7 ـ 8 .
3 ـ المصدر السابق: 8 ـ 9 .
4 ـ المرأة: 51. منابع الثقافة الإسلامية عدد: 19 / كربلاء المقدسة 1381 هـ .
5 ـ لمزيد من التفصيل انظر المصدر السابق .
6 ـ الاجتماع: 1 / 308 ـ 328 .