مبارك حكاية من التاريخ
أيحسب من جعل نفسه كبير قومه انه خارج سياق التاريخ، أو أن الزمن سيتخطاه، فكم مبارك سجل التاريخ، السجلات تطوى لكن لا تفنى، والناس تقرأ ولا تنسى، والعبرة في الاعتبار.
لا توجد نهاية موحدة في التاريخ لمن عاث فساداً وظلماً، فالخيارات مفتوحة لكنها كلها نهاية موجعة مذلة، تفتح آفاقاً جديدة في تاريخ البشرية، فالشعوب هي من يقرر كيف يكتب تاريخها، فنيرون (37 – 68 م) طاغية روما الذي أمر بقتل ما يقارب خمسة آلاف شخص في مذبحة عامة، وبسببه اندلعت النيران في أنحاء روما أسبوعاً كاملاً، والتهمت عشرة أحياء من المدينة، نراه في آخر أيامه بعد اندلاع الثورة في روما، وبعد أن أعلن مجلس الشيوخ بأنه أصبح «عدو الشعب»، هارباً من قصره إلى كوخ بعيد لأحد خدامه الذين بقوا معه. وظل مختبئاً حتى شعر بأصوات الجنود تحوم حوله فما كان منه إلا أن قرر أن يقتل نفسه. ومات الطاغية الذي أرهق روما بمجونه وجنونه.
لم يكن طغاة الشرق بأحسن حالاً من الغرب، فكما يشار أن الشرق هو موطن تأليه الحكام وآسيا هي المنبع والأصل للاستبداد، إذ لم يفكر الإسكندر في تأليه نفسه إلا في الشرق، فعيدي أمين دادا رئيس أوغندا في الفترة ما بين 1971 و1979، الذي يقدر عدد القتلى في فترة حكمه ما بين 80,000 إلى 500,000 - على حسب تقديرات المنظمات الغربية- تم إبعاده وتوفي العام 2003م دون أي ضجيج.
مبارك هو حكاية أخرى يسطرها الشعب المصري هذه المرة، فهو الرئيس الرابع لجمهورية مصر العربية من 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1981، حتى أجبر على التنحي في 11 فبراير/ شباط 2011. وهو الأطول بين ملوك ورؤساء مصر منذ محمد علي باشا. الرئيس المصري السابق قدم للمحاكمة العلنية بتهمة قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير أمام محكمة مدنية في 3 أغسطس/ آب 2011، الموافق 3 رمضان 1432هـ على سرير طبي متحرك. وفي 15 أغسطس 2011 مثل للمحاكمة للمرة الثانية، ولن تكون الأخيرة، ولا يعرف ماذا سيكون مصيره، لكن حتماً التاريخ سيسجّل الحدث.
لم يكن أحد يتوقع أن يرى مبارك في قفص الاتهام، فكان مجرد الحلم بتغيير أي رئيس جريمة تودي بصاحبها إلى غياهب السجون، فكيف بالمطالبة بمحاكمته، فما كان مستحيلاً بالأمس صار اليوم ممكناً، فقد باتت الساحات والميادين والشوارع العربية تعُـجُّ بالمظاهرات والاعتصامات، للمطالبة بتنحِـية الرؤساء وملاحقتهم قضائياً.
ليس بالأمر جنون أو رغبة شعب إنما هو قهر ومعاناة سنين، فمبارك نسى حينما اعتلى عرش مصر قولته الشهيرة في 30 أكتوبر 1981م «مصر ليست ضيعة لحكامها»، ويبدو أنه لم يتذكر خطابه في فبراير 1982 «الكفن مالوش جيوب، سنعلي من شأن الأيادي الطاهرة».
لكن ما الذي جرى، فقد أصبح فساد مصر ليس له حدود، ففي 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 اتهم نائب مجلس الشعب عن كتلة الإخوان المسلمين الحكومة بتوزيع مساحات كثيرة وكبيرة من أراضي مصر على كبار المسئولين بالدولة ورجال أعمال ومن يدور في فلكهم. وتبلغ قيمة تلك الأراضي حوالي 800 مليار جنيه. وفي سبتمبر/ أيلول 2009 تتراجع مصر إلى المركز 115 فساداً على مستوى 180 دولة في العالم حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية. بل وأصبحت مصر الأخيرة عربياً في مسألة الفساد. وفي مارس/ آذار 2010 نشر موقع الشفافية المصري خبراً مفاده اختفاء تريليون و272 مليار جنيه من موازنة الدولة، ومحاولة حكومية لإخفائها وعدم إعطاء معلومات عنها. كما أشار التقرير إلى وجود صناديق خاصة تحوي هذه المبالغ الضخمة دون معرفة أين تذهب! وهو مبلغ يساوي 14 مرةً ضعف العجز الموجود الذي تعاني منه الموازنة، ولو وزع على كل مواطن مصري من 80 مليوناً لأصبح نصيب الفرد 16 ألف جنيه.
يقال إن التاريخ لا يكذب ولا يتجمل، ولكن الخطأ في فهمه وصياغته، فقد أشار أحد الكتاب المصريين إلى نصوص في كتب التاريخ التي تدرس للأطفال المصريين، فعلى سبيل المثال النص المكتوب في كتاب الوزارة للصف السادس الابتدائي قيل فيه: «اقرأ وتعلم واستفد من سيرة حياة الرئيس (السابق). فبماذا استفاد الصغار وما الذي تعلموه وهو قيد المحاكمة ليست بتهمة واحدة ولكن بعدد من التهم»
رملة عبد الحميد
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3268 - الجمعة 19 أغسطس 2011م الموافق 19 رمضان 1432هـ
أيحسب من جعل نفسه كبير قومه انه خارج سياق التاريخ، أو أن الزمن سيتخطاه، فكم مبارك سجل التاريخ، السجلات تطوى لكن لا تفنى، والناس تقرأ ولا تنسى، والعبرة في الاعتبار.
لا توجد نهاية موحدة في التاريخ لمن عاث فساداً وظلماً، فالخيارات مفتوحة لكنها كلها نهاية موجعة مذلة، تفتح آفاقاً جديدة في تاريخ البشرية، فالشعوب هي من يقرر كيف يكتب تاريخها، فنيرون (37 – 68 م) طاغية روما الذي أمر بقتل ما يقارب خمسة آلاف شخص في مذبحة عامة، وبسببه اندلعت النيران في أنحاء روما أسبوعاً كاملاً، والتهمت عشرة أحياء من المدينة، نراه في آخر أيامه بعد اندلاع الثورة في روما، وبعد أن أعلن مجلس الشيوخ بأنه أصبح «عدو الشعب»، هارباً من قصره إلى كوخ بعيد لأحد خدامه الذين بقوا معه. وظل مختبئاً حتى شعر بأصوات الجنود تحوم حوله فما كان منه إلا أن قرر أن يقتل نفسه. ومات الطاغية الذي أرهق روما بمجونه وجنونه.
لم يكن طغاة الشرق بأحسن حالاً من الغرب، فكما يشار أن الشرق هو موطن تأليه الحكام وآسيا هي المنبع والأصل للاستبداد، إذ لم يفكر الإسكندر في تأليه نفسه إلا في الشرق، فعيدي أمين دادا رئيس أوغندا في الفترة ما بين 1971 و1979، الذي يقدر عدد القتلى في فترة حكمه ما بين 80,000 إلى 500,000 - على حسب تقديرات المنظمات الغربية- تم إبعاده وتوفي العام 2003م دون أي ضجيج.
مبارك هو حكاية أخرى يسطرها الشعب المصري هذه المرة، فهو الرئيس الرابع لجمهورية مصر العربية من 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1981، حتى أجبر على التنحي في 11 فبراير/ شباط 2011. وهو الأطول بين ملوك ورؤساء مصر منذ محمد علي باشا. الرئيس المصري السابق قدم للمحاكمة العلنية بتهمة قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير أمام محكمة مدنية في 3 أغسطس/ آب 2011، الموافق 3 رمضان 1432هـ على سرير طبي متحرك. وفي 15 أغسطس 2011 مثل للمحاكمة للمرة الثانية، ولن تكون الأخيرة، ولا يعرف ماذا سيكون مصيره، لكن حتماً التاريخ سيسجّل الحدث.
لم يكن أحد يتوقع أن يرى مبارك في قفص الاتهام، فكان مجرد الحلم بتغيير أي رئيس جريمة تودي بصاحبها إلى غياهب السجون، فكيف بالمطالبة بمحاكمته، فما كان مستحيلاً بالأمس صار اليوم ممكناً، فقد باتت الساحات والميادين والشوارع العربية تعُـجُّ بالمظاهرات والاعتصامات، للمطالبة بتنحِـية الرؤساء وملاحقتهم قضائياً.
ليس بالأمر جنون أو رغبة شعب إنما هو قهر ومعاناة سنين، فمبارك نسى حينما اعتلى عرش مصر قولته الشهيرة في 30 أكتوبر 1981م «مصر ليست ضيعة لحكامها»، ويبدو أنه لم يتذكر خطابه في فبراير 1982 «الكفن مالوش جيوب، سنعلي من شأن الأيادي الطاهرة».
لكن ما الذي جرى، فقد أصبح فساد مصر ليس له حدود، ففي 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 اتهم نائب مجلس الشعب عن كتلة الإخوان المسلمين الحكومة بتوزيع مساحات كثيرة وكبيرة من أراضي مصر على كبار المسئولين بالدولة ورجال أعمال ومن يدور في فلكهم. وتبلغ قيمة تلك الأراضي حوالي 800 مليار جنيه. وفي سبتمبر/ أيلول 2009 تتراجع مصر إلى المركز 115 فساداً على مستوى 180 دولة في العالم حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية. بل وأصبحت مصر الأخيرة عربياً في مسألة الفساد. وفي مارس/ آذار 2010 نشر موقع الشفافية المصري خبراً مفاده اختفاء تريليون و272 مليار جنيه من موازنة الدولة، ومحاولة حكومية لإخفائها وعدم إعطاء معلومات عنها. كما أشار التقرير إلى وجود صناديق خاصة تحوي هذه المبالغ الضخمة دون معرفة أين تذهب! وهو مبلغ يساوي 14 مرةً ضعف العجز الموجود الذي تعاني منه الموازنة، ولو وزع على كل مواطن مصري من 80 مليوناً لأصبح نصيب الفرد 16 ألف جنيه.
يقال إن التاريخ لا يكذب ولا يتجمل، ولكن الخطأ في فهمه وصياغته، فقد أشار أحد الكتاب المصريين إلى نصوص في كتب التاريخ التي تدرس للأطفال المصريين، فعلى سبيل المثال النص المكتوب في كتاب الوزارة للصف السادس الابتدائي قيل فيه: «اقرأ وتعلم واستفد من سيرة حياة الرئيس (السابق). فبماذا استفاد الصغار وما الذي تعلموه وهو قيد المحاكمة ليست بتهمة واحدة ولكن بعدد من التهم»
رملة عبد الحميد
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3268 - الجمعة 19 أغسطس 2011م الموافق 19 رمضان 1432هـ