في اليوم العالمي لمناهضة العنصرية
مرّت علينا عدة مناسبات وأيام يحتفل بها العالم سنوياً، دون أن يتوقف عندها أحد، وآخرها اليوم العالمي للقضاء على التفرقة العنصرية الذي صادف أمس.
ففي الحادي والعشرين من مارس عام 1960، أطلقت شرطة جنوب افريقيا النار على مظاهرة سلمية احتجاجاً على قوانين الفصل العنصري، فقتلت ستين وجرحت أضعافهم. وفي رسالته بالمناسبة قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون «إننا لا نحتفل لنتذكر الأشخاص الذين قضوا نحبهم فقط، بل لنوجّه الانتباه كذلك إلى المعاناة الأوسع التي يسببها التمييز العنصري». وحثّ على التركيز على «محاربة التمييز اليومي»، فأفظع الأعمال الوحشية التي ارتكبها الإنسان تستند إلى خلفيات عرقية، وأكثر جرائم البشرية هولاً وبشاعةً هي التي بنيت على التعصب المبتذل، والتي تقبل بممارستها فئاتٌ ضد غيرها دون رقابةٍ من الضمير.
بان كي مون كان يتكلم كصحافي يعيش في الكثير من البلدان المبتلاة بهذا الداء، فهو يشير إلى «التنابز بالألقاب في المدارس، وعمليات التوظيف والطرد في أماكن العمل، والتغطية الانتقائية للجرائم من طرف وسائط الإعلام والشرطة، والتقديم غير المتكافئ للخدمات الحكومية». ويضيف: «انتشار هذا القدر من العنصرية المعتادة أمر لا يمكن إنكاره، لكن أن ندعه يمر دون معارضة فأمرٌ لا يقبله ضمير».
وحسب كي مون «يجب عدم التسامح إزاء العفن الزاحف للتمييز الروتيني... فلا يولد أحدٌ منا مجبولاً على الكراهية، وتعد الضمانات القانونية جزءاً أساسياً من هذا الصراع. لكن التعليم يجب أن يكون في الطليعة، إذ يمكن أن يدعم الوعي ويربي روح التسامح»، فكيف إذا كانت المؤسسة التعليمية ملوثةً بفيروسات هذا الداء الوبيل؟ وكيف إذا تحمّل الإعلام الوزر الأكبر في إثارة الخلافات بين عناصر المجتمع وتأجيج صراعاته؟
الناشط الحقوقي عبدالله الدرازي (عضو سابق بالهيئة الوطنية لحقوق الإنسان الرسمية)، تحدّث أمس عن الحركة الشبابية التي حملت شعارات مطلبية ومدنية في إطار سلمي، جرى تصويرها على أساس فئوي، وانتقد الإعلام الرسمي الذي ما فتئ يشن حملات تحريض ضد أبناء الشعب، والاستمراء بلعبة تصنيف المواطنين على أساس أصولهم المذهبية والدينية والعرقية.
بالإمكان التغاضي عن مطالب وتطلعات الشعوب، أو القفز على مطالبها المشروعة، واتهامها في دوافعها النبيلة، لكن لا يمكن الدفاع عن أي انتهاك صارخ للعدالة وعدم المساواة بين البشر، وخصوصاً في هذا العصر المنفتح على بعضه بعضاً. ولنتذكر أن الحاضر سيصبح ماضياً، وأن هذا المقال سيصبح تاريخاً بعد صدور الصحيفة، وأن كلاً منا ستذكره الأجيال بموقفه في هذه المحنة الطاحنة.
هل يذكر أحدٌ في عالم اليوم شخصاً اسمه بيك بوتا؟ ومَنْ في العالم لا يعرف اسم نيلسون مانديلا؟ أو المهاتما غاندي؟ أو مارتن لوثر كنغ؟ ولماذا نحتفل بكل الشخصيات ذوي الضمائر الإنسانية، فإذا جاء الدور علينا نحوّلهم إلى مجرمين؟ ولماذا يستهدف الإعلام الرسمي كوادرنا الطبية الوطنية ويحرّض على تصفيتهم بسبب قيامهم بالواجب الإنساني في معالجة الجرحى والمصابين؟
إنها معركةٌ خاسرةٌ سلفاً في ميزان القيم والمبادئ والضمير. معركةٌ خاسرةٌ تماماً وضد حركة التاريخ. في البحرين أصدرت منظمات المجتمع المدني (19 جمعية حقوقية وطبية وعمالية وشبابية ونسائية ومحامين وأدباء وكتاب)، بياناً أكد أن الاعتقالات التي شملت عدداً كبيراً من المواطنين، لا تساعد على حل الأزمة. وطالبت بالعمل على إطلاق سراح المعتقلين، وتحديد مصير عشرات المفقودين، واللجوء إلى لغة الحوار.
منظمات المجتمع المدني العربية (119 جمعية) أعربت في بيانها الأخير، عن قلقها الكبير لقمع المسيرات السلمية وتعرض المتظاهرين للرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع في عدد من البلدان العربية، واحتجاز حرية عدد من قيادات المعارضة البحرينية، وحرق مقري جمعية «وعد»، وعدم تسليم جثامين الضحايا لذويهم، وسيطرة الأمن على مستشفى السلمانية، والاعتداء على الطواقم الطبية. هذه المنظمات طالبت بإرسال لجان تقصي حقائق للوقوف على انتهاكات حقوق الإنسان.
الوفد الطبي الكويتي الذي جاء لإنشاء مستشفى ميداني لعلاج المصابين، عاد إلى بلاده مرةً أخرى، ومازال أعضاؤه في صدمة لمنعه من الدخول للقيام بمهمة إنسانية بحتة. بينما الهلال الأحمر البحريني لا يزال يغط في سباته، ويتغنى بمعزوفة الحياد والترفع عن القضايا العامة، مع أن من صلب واجباته الإنسانية المساهمة في إجلاء المصابين وإنقاذ الجرحى والعمل على تحديد مصير المفقودين. لم يطلب منهم أحدٌ التدخل في السياسة، لكن الواجب يفرض عليهم أن يقوموا بما تقوم به كل جمعيات الهلال والصليب عبر العالم، فلا تنحصر مهمتهم بتنظيم دورات تدريبية للمتطوعين في أوقات الفراغ!
في المؤتمر الأخير للجمعيات السياسية (الأحد)، ذكّر عبدالحميد مراد (وعد)، بأن «أسباب الحركة الشعبية الأخيرة ليست وليدة الشهر الماضي، بل يعود تاريخها إلى أربعة عقود، وتوارثنا بعضها من زمن الاستعمار. طموح المواطن أن يعيش في كرامة وحرية وعزة، وليس مواطناً من الدرجة الرابعة أو العاشرة». وحين طرح بعض المراسلين الأجانب سؤالاً عن منهجية الحركة، أجاب موسى الأنصاري (الإخاء الوطني): «هذه الحركة الشعبية سلمية وحضارية، لم يحدث خلال هذا الشهر أي تكسير أو تخريب. وخلال أسبوعين سقط 20 قتيلاً، ومئات الجرحى، ومع ذلك التزم الشعب بالسلمية، فلم يكسر حتى غصناً واحداً في شجرة».
آخر ما شاهدته وأنا أشطّب على هذا المقال عند العاشرة مساءً، مشهد الطفلة فاطمة وهي تتكلّم عن أبيها الذي شُيّع أمس: «أنا فخورةٌ بأبي، فهو أفضل مكانة عند الله، لأنه ستُمحى كل ذنوبه». يا دامية العينين والكفين ضمّد الله جراحك، وربط على قلبك... فحبوب سنبلةٍ تموت ستملأ الوادي سنابل
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3119 - الثلثاء 22 مارس 2011م الموافق 17 ربيع الثاني 1432هـ
مرّت علينا عدة مناسبات وأيام يحتفل بها العالم سنوياً، دون أن يتوقف عندها أحد، وآخرها اليوم العالمي للقضاء على التفرقة العنصرية الذي صادف أمس.
ففي الحادي والعشرين من مارس عام 1960، أطلقت شرطة جنوب افريقيا النار على مظاهرة سلمية احتجاجاً على قوانين الفصل العنصري، فقتلت ستين وجرحت أضعافهم. وفي رسالته بالمناسبة قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون «إننا لا نحتفل لنتذكر الأشخاص الذين قضوا نحبهم فقط، بل لنوجّه الانتباه كذلك إلى المعاناة الأوسع التي يسببها التمييز العنصري». وحثّ على التركيز على «محاربة التمييز اليومي»، فأفظع الأعمال الوحشية التي ارتكبها الإنسان تستند إلى خلفيات عرقية، وأكثر جرائم البشرية هولاً وبشاعةً هي التي بنيت على التعصب المبتذل، والتي تقبل بممارستها فئاتٌ ضد غيرها دون رقابةٍ من الضمير.
بان كي مون كان يتكلم كصحافي يعيش في الكثير من البلدان المبتلاة بهذا الداء، فهو يشير إلى «التنابز بالألقاب في المدارس، وعمليات التوظيف والطرد في أماكن العمل، والتغطية الانتقائية للجرائم من طرف وسائط الإعلام والشرطة، والتقديم غير المتكافئ للخدمات الحكومية». ويضيف: «انتشار هذا القدر من العنصرية المعتادة أمر لا يمكن إنكاره، لكن أن ندعه يمر دون معارضة فأمرٌ لا يقبله ضمير».
وحسب كي مون «يجب عدم التسامح إزاء العفن الزاحف للتمييز الروتيني... فلا يولد أحدٌ منا مجبولاً على الكراهية، وتعد الضمانات القانونية جزءاً أساسياً من هذا الصراع. لكن التعليم يجب أن يكون في الطليعة، إذ يمكن أن يدعم الوعي ويربي روح التسامح»، فكيف إذا كانت المؤسسة التعليمية ملوثةً بفيروسات هذا الداء الوبيل؟ وكيف إذا تحمّل الإعلام الوزر الأكبر في إثارة الخلافات بين عناصر المجتمع وتأجيج صراعاته؟
الناشط الحقوقي عبدالله الدرازي (عضو سابق بالهيئة الوطنية لحقوق الإنسان الرسمية)، تحدّث أمس عن الحركة الشبابية التي حملت شعارات مطلبية ومدنية في إطار سلمي، جرى تصويرها على أساس فئوي، وانتقد الإعلام الرسمي الذي ما فتئ يشن حملات تحريض ضد أبناء الشعب، والاستمراء بلعبة تصنيف المواطنين على أساس أصولهم المذهبية والدينية والعرقية.
بالإمكان التغاضي عن مطالب وتطلعات الشعوب، أو القفز على مطالبها المشروعة، واتهامها في دوافعها النبيلة، لكن لا يمكن الدفاع عن أي انتهاك صارخ للعدالة وعدم المساواة بين البشر، وخصوصاً في هذا العصر المنفتح على بعضه بعضاً. ولنتذكر أن الحاضر سيصبح ماضياً، وأن هذا المقال سيصبح تاريخاً بعد صدور الصحيفة، وأن كلاً منا ستذكره الأجيال بموقفه في هذه المحنة الطاحنة.
هل يذكر أحدٌ في عالم اليوم شخصاً اسمه بيك بوتا؟ ومَنْ في العالم لا يعرف اسم نيلسون مانديلا؟ أو المهاتما غاندي؟ أو مارتن لوثر كنغ؟ ولماذا نحتفل بكل الشخصيات ذوي الضمائر الإنسانية، فإذا جاء الدور علينا نحوّلهم إلى مجرمين؟ ولماذا يستهدف الإعلام الرسمي كوادرنا الطبية الوطنية ويحرّض على تصفيتهم بسبب قيامهم بالواجب الإنساني في معالجة الجرحى والمصابين؟
إنها معركةٌ خاسرةٌ سلفاً في ميزان القيم والمبادئ والضمير. معركةٌ خاسرةٌ تماماً وضد حركة التاريخ. في البحرين أصدرت منظمات المجتمع المدني (19 جمعية حقوقية وطبية وعمالية وشبابية ونسائية ومحامين وأدباء وكتاب)، بياناً أكد أن الاعتقالات التي شملت عدداً كبيراً من المواطنين، لا تساعد على حل الأزمة. وطالبت بالعمل على إطلاق سراح المعتقلين، وتحديد مصير عشرات المفقودين، واللجوء إلى لغة الحوار.
منظمات المجتمع المدني العربية (119 جمعية) أعربت في بيانها الأخير، عن قلقها الكبير لقمع المسيرات السلمية وتعرض المتظاهرين للرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع في عدد من البلدان العربية، واحتجاز حرية عدد من قيادات المعارضة البحرينية، وحرق مقري جمعية «وعد»، وعدم تسليم جثامين الضحايا لذويهم، وسيطرة الأمن على مستشفى السلمانية، والاعتداء على الطواقم الطبية. هذه المنظمات طالبت بإرسال لجان تقصي حقائق للوقوف على انتهاكات حقوق الإنسان.
الوفد الطبي الكويتي الذي جاء لإنشاء مستشفى ميداني لعلاج المصابين، عاد إلى بلاده مرةً أخرى، ومازال أعضاؤه في صدمة لمنعه من الدخول للقيام بمهمة إنسانية بحتة. بينما الهلال الأحمر البحريني لا يزال يغط في سباته، ويتغنى بمعزوفة الحياد والترفع عن القضايا العامة، مع أن من صلب واجباته الإنسانية المساهمة في إجلاء المصابين وإنقاذ الجرحى والعمل على تحديد مصير المفقودين. لم يطلب منهم أحدٌ التدخل في السياسة، لكن الواجب يفرض عليهم أن يقوموا بما تقوم به كل جمعيات الهلال والصليب عبر العالم، فلا تنحصر مهمتهم بتنظيم دورات تدريبية للمتطوعين في أوقات الفراغ!
في المؤتمر الأخير للجمعيات السياسية (الأحد)، ذكّر عبدالحميد مراد (وعد)، بأن «أسباب الحركة الشعبية الأخيرة ليست وليدة الشهر الماضي، بل يعود تاريخها إلى أربعة عقود، وتوارثنا بعضها من زمن الاستعمار. طموح المواطن أن يعيش في كرامة وحرية وعزة، وليس مواطناً من الدرجة الرابعة أو العاشرة». وحين طرح بعض المراسلين الأجانب سؤالاً عن منهجية الحركة، أجاب موسى الأنصاري (الإخاء الوطني): «هذه الحركة الشعبية سلمية وحضارية، لم يحدث خلال هذا الشهر أي تكسير أو تخريب. وخلال أسبوعين سقط 20 قتيلاً، ومئات الجرحى، ومع ذلك التزم الشعب بالسلمية، فلم يكسر حتى غصناً واحداً في شجرة».
آخر ما شاهدته وأنا أشطّب على هذا المقال عند العاشرة مساءً، مشهد الطفلة فاطمة وهي تتكلّم عن أبيها الذي شُيّع أمس: «أنا فخورةٌ بأبي، فهو أفضل مكانة عند الله، لأنه ستُمحى كل ذنوبه». يا دامية العينين والكفين ضمّد الله جراحك، وربط على قلبك... فحبوب سنبلةٍ تموت ستملأ الوادي سنابل
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3119 - الثلثاء 22 مارس 2011م الموافق 17 ربيع الثاني 1432هـ