عاشوراء والمصالحة مع الذات
استضاف «مشروع عاشوراء المنامة» الرابع مساء السبت الماضي، ندوةً للباحث التاريخي سالم النويدري عن شاعر بحريني قديم اسمه عبدالله بن أحمد الذَهَبَة، بالتعاون مع الأوقاف الجعفرية. بدأت الندوة بكلمةٍ لوزير العدل الشيخ خالد بن علي آل خليفة، أشار فيها إلى حرص الدولة دائماً على «رعاية الحريات الدينية باعتبارها إحدى واجباتها الأساسية وجزء من حماية هوية هذا الوطن». وألمح إلى ما تحظى به ذكرى عاشوراء من اهتمام رسمي يتناسب ومكانتها، وأضاف: «إن ذكرى إحياء استشهاد الإمام الحسين (ع) تشكّل محطة تذكّرٍ واستلهام للمعاني والقيم النبيلة التي جسدها الإمام، وهو ما يجب المحافظة عليه وصونه بما يناسب قدر ومنزلة صاحب هذه الذكرى الذي قال فيه النبي (ص): (حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط)».
بعد هذه الكلمة الطيبة، قدّم الباحث النويدري عرضاً سريعاً لشعراء البحرين الأوائل الذين ارتبطوا بالرثاء الحسيني عبر القرون، كابن حماد (999 هـ / 1590 م)؛ وماجد الصادقي (1320هـ / 1902 م)؛ وعبدالنبي بن مانع (القرن 12 هجري / 18 ميلادي )، وإبراهيم آل نشرة (جد أسرة التاجر المعروفة وعاش في القرن الثامن عشر الميلادي)؛ والشيخ حسن الدمستاني (1181 هـ/ 1767م)، الذي يعتبر من أبرز أعلام هذا الفن، فقصيدته «أحرم الحجاج» سارت بها المواكب والركبان.
الشاعر الذهبة عاش توفي مطلع القرن العشرين، وله مسجدٌ في مسقط رأسه جدحفص، عند نهاية الشارع المفضي لإشارات الدَّيْه. وله ديوانٌ مفقودٌ من 4 مجلدات، ولم يبقَ من تراثه إلا قصائد معدودات، وقرَنه بعض معاصريه بالشاعر الكبير السيد حيدر الحلي. وقد رحل إلى القطيف، وله عائلةٌ هناك في قرية «الكويكب»، ثم هاجر إلى مسقط واستقر أخيراً في لنجة ببر فارس حيث توفي. وقد أرّخ له العلامة آغا بزرك الطهراني ونقل قطعةً من شعره.
الشاعر المحتفى به ما هو إلا اسمٌ عابرٌ من طابورٍ طويلٍ من شعراء الرثاء، هذا الفن الإسلامي الأصيل الذي تعود جذوره إلى عهد الرسول الأعظم (ص) وأيام الغزوات الأولى. وهو تراثٌ ضخمٌ يمتد من حسّان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك الأنصاري، إلى الكميت الأسدي وسليمان بن قتّة ودعبل الخزاعي والسيّد الحِمْيَري والشريف الرضي وأبوفراس الحمداني وعشرات غيرهم.
في البحرين، هناك كوكبةٌ من الشعراء عبر القرون، كانت ومازالت تتعاطى هذا الأدب الإسلامي، في بيئةٍ دأبت على إحياء ذكرى عاشوراء سنوياً. هذه الطبقة التي تكتب الشعر الفصيح والعامي، أثّرت وتؤثّر في الوجدان الشعبي وتسهم في صياغة الفكر العام، ومع ذلك يتم إسقاطها من الذاكرة العلمية والبحثية، وكأنها غير موجودة من الأساس.
في منتصف الثمانينيات، قرأت دراسة علوي الهاشمي «ما قالته النخلة للبحر»، التي تطرّق فيها لدراسة الشعر المعاصر في البحرين، وكان غريباً جداً أنه أسقط كل التراث الحسيني من كتابه، مع أن بداياته كانت مع هذا الشعر، وقد وعى على الدنيا وصوت الخطيب الحسيني بمأتم الإحسائيين يتسلّل من نافذته. وهي إشكاليةٌ تتكرّر لدى الكثير من الدارسين والباحثين في جامعة البحرين الوطنية... فكيف يخلو قسم الأدب من دراسةِ مكوّنٍ أساسي من التراث.
إن تاريخ البحرين العلمي والأدبي لا يبدأ بالتعليم النظامي مطلع العشرينيات، ولم تكن البحرين قبل ذلك بلقعاً ثقافياً، بل يرجع قروناً لتلك الحوزات والمدارس الدينية التي خرّجت علماء وفقهاء وشعراء وخطباء ومتكلّمين، وحافظت على بقاء البحرين واحةً علميةً خضراء، تهفو إليها قلوب المثقفين في الخليج حتى الآن.
إن موسم عاشوراء يكشف لنا كم نحن بحاجةٍ إلى إجراء مصالحةٍ - لن أقول مع الآخر لأننا شعبٌ واحدٌ - مع الذات.
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3020 - الإثنين 13 ديسمبر 2010م الموافق 07 محرم 1432هـ
استضاف «مشروع عاشوراء المنامة» الرابع مساء السبت الماضي، ندوةً للباحث التاريخي سالم النويدري عن شاعر بحريني قديم اسمه عبدالله بن أحمد الذَهَبَة، بالتعاون مع الأوقاف الجعفرية. بدأت الندوة بكلمةٍ لوزير العدل الشيخ خالد بن علي آل خليفة، أشار فيها إلى حرص الدولة دائماً على «رعاية الحريات الدينية باعتبارها إحدى واجباتها الأساسية وجزء من حماية هوية هذا الوطن». وألمح إلى ما تحظى به ذكرى عاشوراء من اهتمام رسمي يتناسب ومكانتها، وأضاف: «إن ذكرى إحياء استشهاد الإمام الحسين (ع) تشكّل محطة تذكّرٍ واستلهام للمعاني والقيم النبيلة التي جسدها الإمام، وهو ما يجب المحافظة عليه وصونه بما يناسب قدر ومنزلة صاحب هذه الذكرى الذي قال فيه النبي (ص): (حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط)».
بعد هذه الكلمة الطيبة، قدّم الباحث النويدري عرضاً سريعاً لشعراء البحرين الأوائل الذين ارتبطوا بالرثاء الحسيني عبر القرون، كابن حماد (999 هـ / 1590 م)؛ وماجد الصادقي (1320هـ / 1902 م)؛ وعبدالنبي بن مانع (القرن 12 هجري / 18 ميلادي )، وإبراهيم آل نشرة (جد أسرة التاجر المعروفة وعاش في القرن الثامن عشر الميلادي)؛ والشيخ حسن الدمستاني (1181 هـ/ 1767م)، الذي يعتبر من أبرز أعلام هذا الفن، فقصيدته «أحرم الحجاج» سارت بها المواكب والركبان.
الشاعر الذهبة عاش توفي مطلع القرن العشرين، وله مسجدٌ في مسقط رأسه جدحفص، عند نهاية الشارع المفضي لإشارات الدَّيْه. وله ديوانٌ مفقودٌ من 4 مجلدات، ولم يبقَ من تراثه إلا قصائد معدودات، وقرَنه بعض معاصريه بالشاعر الكبير السيد حيدر الحلي. وقد رحل إلى القطيف، وله عائلةٌ هناك في قرية «الكويكب»، ثم هاجر إلى مسقط واستقر أخيراً في لنجة ببر فارس حيث توفي. وقد أرّخ له العلامة آغا بزرك الطهراني ونقل قطعةً من شعره.
الشاعر المحتفى به ما هو إلا اسمٌ عابرٌ من طابورٍ طويلٍ من شعراء الرثاء، هذا الفن الإسلامي الأصيل الذي تعود جذوره إلى عهد الرسول الأعظم (ص) وأيام الغزوات الأولى. وهو تراثٌ ضخمٌ يمتد من حسّان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك الأنصاري، إلى الكميت الأسدي وسليمان بن قتّة ودعبل الخزاعي والسيّد الحِمْيَري والشريف الرضي وأبوفراس الحمداني وعشرات غيرهم.
في البحرين، هناك كوكبةٌ من الشعراء عبر القرون، كانت ومازالت تتعاطى هذا الأدب الإسلامي، في بيئةٍ دأبت على إحياء ذكرى عاشوراء سنوياً. هذه الطبقة التي تكتب الشعر الفصيح والعامي، أثّرت وتؤثّر في الوجدان الشعبي وتسهم في صياغة الفكر العام، ومع ذلك يتم إسقاطها من الذاكرة العلمية والبحثية، وكأنها غير موجودة من الأساس.
في منتصف الثمانينيات، قرأت دراسة علوي الهاشمي «ما قالته النخلة للبحر»، التي تطرّق فيها لدراسة الشعر المعاصر في البحرين، وكان غريباً جداً أنه أسقط كل التراث الحسيني من كتابه، مع أن بداياته كانت مع هذا الشعر، وقد وعى على الدنيا وصوت الخطيب الحسيني بمأتم الإحسائيين يتسلّل من نافذته. وهي إشكاليةٌ تتكرّر لدى الكثير من الدارسين والباحثين في جامعة البحرين الوطنية... فكيف يخلو قسم الأدب من دراسةِ مكوّنٍ أساسي من التراث.
إن تاريخ البحرين العلمي والأدبي لا يبدأ بالتعليم النظامي مطلع العشرينيات، ولم تكن البحرين قبل ذلك بلقعاً ثقافياً، بل يرجع قروناً لتلك الحوزات والمدارس الدينية التي خرّجت علماء وفقهاء وشعراء وخطباء ومتكلّمين، وحافظت على بقاء البحرين واحةً علميةً خضراء، تهفو إليها قلوب المثقفين في الخليج حتى الآن.
إن موسم عاشوراء يكشف لنا كم نحن بحاجةٍ إلى إجراء مصالحةٍ - لن أقول مع الآخر لأننا شعبٌ واحدٌ - مع الذات.
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3020 - الإثنين 13 ديسمبر 2010م الموافق 07 محرم 1432هـ