الدولة وحرية المواطن أولاً وأخيراً
طرح الكاتب إبراهيم العريس سؤالاً في مقال نشره بصحيفة «الحياة» الصادرة بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 2010، والسؤال كان في عنوان المقال: «ما هو التنوير؟»، وأجاب عليه في العنوان عندما كتب أن جواب السؤال يأتي من الفيلسوف إيمانويل كانط في مقال يعود للعام 1784، يشير فيه إلى أن التنوير هو «الدولة وحرية المواطن أولاً وأخيراً». هذه الأسئلة التي كانت مطروحة في القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا، مهمة بالنسبة لنا، وذلك لأنها حسمت منذ وقت غير قصير في البلدان التي تقود الحضارة المعاصرة، وبما أننا نحاول اللحاق بهذا الركب الحضاري في جوانبه المشرقة إنسانياً، ونتشدق كثيراً (حكاماً ومحكومين) بالدولة القومية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن علينا أن نعود إلى الكيفية التي عولجت فيها هذه القضايا في بداياتها.
الشعوب الأوروبية لديها ما يسمى بـ «القرون الوسطى/ المظلمة»، وهي فترة استمرت نحو 1000 (ألف) عام حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وفي تلك الفترة كان أي كتاب وأي علم (إذا لم يوافق عليه القساوسة) ممنوعاً ويتم حرقه وسجن أو إعدام من يحاول قراءته. والغريب أن النخبة الأوروبية (المتدينة) عندما أرادت الخروج من العصور المظلمة استعانت بما كان يكتبه علماء وفلاسفة المسلمين، مثل ابن رشد، الذي تأثر به الكثيرون في أوروبا في العصور الوسطى، لأنه (ابن رشد) آمن بالعقل، وأنه لايتعارض مع الوحي الإلهي، وهذا كان شيئاً غريباً في أوروبا آنذاك، ولذا تم تحريم كتب ابن رشد.
بعد العصور الوسطى، انفتحت أوروبا على ما يسمى بـ «عصرالنهضة»، وهي الفترة الواقعة تقريباً مابين 1440 حتى 1540م، عندما برز المفكرون في المدن الإيطالية الشمالية وظهرت طبقة التجار القوية (البرجوازية) المتعلمة والبعيدة عن الكنيسة، وكان من بين المفكرين الذين ظهروا في هذه الفترة نيكولاي مكيافيللي (1469-1527)، ومن الصعب إغفال أهمية هذه الفترة على التطورات اللاحقة، لأن مكيافيللي لم يكن لوحده، ولكن ما كتبه تحول إلى أمثال تتداول حتى اليوم، لأنه فصل السياسة عن الدين وعن الأخلاق، وذلك كردة فعل على فجور وظلم عدد غير قليل من القساوسة آنذاك، ووجد أن التخلص منهم لايتم إلا من خلال تقوية الملوك عليهم، والملوك كانوا بحاجة إلى تنظيرات لتركيع الكنيسة، وجاءت كتاباته في هذا السياق.
بعد «عصر النهضة»، دخلت أوروبا في عصر «الإصلاح الديني»، الذي استمر لفترة غير قصيرة غطت القرن السابع عشر الميلادي... وبعد ذلك دخلت أوروبا في «عصر التنوير» في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو القرن الذي ترسخت فيه مفاهيم الدولة والمجتمع والمواطنة والحقوق، الخ. ومقال إبراهيم العريس الذي نشر في صحيفة «الحياة» الشهر الماضي يعود إلى هذه الفترة ويستقي من أحد فلاسفتها معنى «التنوير»، قائلاً: عند بداية سنوات الثمانين من القرن الثامن عشر، وأيام ازدهار أفكار التنوير الفرنسية ووصولها، خصوصاً إلى ألمانيا حيث تبناها بعض كبار المفكرين الألمان، طرح رجل دين مفكر كان معنياً في ذلك الحين، كما يبدو، بقضايا التنوير، حادساً بنوع من خطر تمثله على بعض ما يحمل هو من أفكار، طرح على عدد من الفلاسفة سؤالاً في غاية البساطة، شاء لأجوبته أن تعينه هو شخصياً وأن تعين النخبة المثقفة على تلمس طريقها، وكان السؤال هو: «ما هو التنوير؟».
الجواب تكفل به الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي أشار إلى أن «التنوير» هو «تحرير الإنسان من وضعية دونية ذهنياً، وضع الإنسان نفسه فيها في شكل طوعي»، وإن ما يقف خلف هذا الإحساس بالعجز إنما هو «افتقار الإنسان إلى الشجاعة والمقدرة على اتخاذ القرار». ويخلص (بعد تفسير مطول) إلى أنه «في قضايا المصلحة العامة مثلاً، يتوجب أن يكون ثمة قسط من الانتظام العام (الدولة)... وأن الواجب الأول الذي يتعين على كل دولة متنورة أن تمارسه إنما يكمن في تربية الناس على مفهوم الحرية، أما احترام النقد والاستقلال الفكري فيتعين أن يعتبر واحداً من المبادئ الأساسية في الوجود».
منصور الجمري
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2952 - الأربعاء 06 أكتوبر 2010م الموافق 27 شوال 1431هـ
طرح الكاتب إبراهيم العريس سؤالاً في مقال نشره بصحيفة «الحياة» الصادرة بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 2010، والسؤال كان في عنوان المقال: «ما هو التنوير؟»، وأجاب عليه في العنوان عندما كتب أن جواب السؤال يأتي من الفيلسوف إيمانويل كانط في مقال يعود للعام 1784، يشير فيه إلى أن التنوير هو «الدولة وحرية المواطن أولاً وأخيراً». هذه الأسئلة التي كانت مطروحة في القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا، مهمة بالنسبة لنا، وذلك لأنها حسمت منذ وقت غير قصير في البلدان التي تقود الحضارة المعاصرة، وبما أننا نحاول اللحاق بهذا الركب الحضاري في جوانبه المشرقة إنسانياً، ونتشدق كثيراً (حكاماً ومحكومين) بالدولة القومية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن علينا أن نعود إلى الكيفية التي عولجت فيها هذه القضايا في بداياتها.
الشعوب الأوروبية لديها ما يسمى بـ «القرون الوسطى/ المظلمة»، وهي فترة استمرت نحو 1000 (ألف) عام حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وفي تلك الفترة كان أي كتاب وأي علم (إذا لم يوافق عليه القساوسة) ممنوعاً ويتم حرقه وسجن أو إعدام من يحاول قراءته. والغريب أن النخبة الأوروبية (المتدينة) عندما أرادت الخروج من العصور المظلمة استعانت بما كان يكتبه علماء وفلاسفة المسلمين، مثل ابن رشد، الذي تأثر به الكثيرون في أوروبا في العصور الوسطى، لأنه (ابن رشد) آمن بالعقل، وأنه لايتعارض مع الوحي الإلهي، وهذا كان شيئاً غريباً في أوروبا آنذاك، ولذا تم تحريم كتب ابن رشد.
بعد العصور الوسطى، انفتحت أوروبا على ما يسمى بـ «عصرالنهضة»، وهي الفترة الواقعة تقريباً مابين 1440 حتى 1540م، عندما برز المفكرون في المدن الإيطالية الشمالية وظهرت طبقة التجار القوية (البرجوازية) المتعلمة والبعيدة عن الكنيسة، وكان من بين المفكرين الذين ظهروا في هذه الفترة نيكولاي مكيافيللي (1469-1527)، ومن الصعب إغفال أهمية هذه الفترة على التطورات اللاحقة، لأن مكيافيللي لم يكن لوحده، ولكن ما كتبه تحول إلى أمثال تتداول حتى اليوم، لأنه فصل السياسة عن الدين وعن الأخلاق، وذلك كردة فعل على فجور وظلم عدد غير قليل من القساوسة آنذاك، ووجد أن التخلص منهم لايتم إلا من خلال تقوية الملوك عليهم، والملوك كانوا بحاجة إلى تنظيرات لتركيع الكنيسة، وجاءت كتاباته في هذا السياق.
بعد «عصر النهضة»، دخلت أوروبا في عصر «الإصلاح الديني»، الذي استمر لفترة غير قصيرة غطت القرن السابع عشر الميلادي... وبعد ذلك دخلت أوروبا في «عصر التنوير» في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو القرن الذي ترسخت فيه مفاهيم الدولة والمجتمع والمواطنة والحقوق، الخ. ومقال إبراهيم العريس الذي نشر في صحيفة «الحياة» الشهر الماضي يعود إلى هذه الفترة ويستقي من أحد فلاسفتها معنى «التنوير»، قائلاً: عند بداية سنوات الثمانين من القرن الثامن عشر، وأيام ازدهار أفكار التنوير الفرنسية ووصولها، خصوصاً إلى ألمانيا حيث تبناها بعض كبار المفكرين الألمان، طرح رجل دين مفكر كان معنياً في ذلك الحين، كما يبدو، بقضايا التنوير، حادساً بنوع من خطر تمثله على بعض ما يحمل هو من أفكار، طرح على عدد من الفلاسفة سؤالاً في غاية البساطة، شاء لأجوبته أن تعينه هو شخصياً وأن تعين النخبة المثقفة على تلمس طريقها، وكان السؤال هو: «ما هو التنوير؟».
الجواب تكفل به الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي أشار إلى أن «التنوير» هو «تحرير الإنسان من وضعية دونية ذهنياً، وضع الإنسان نفسه فيها في شكل طوعي»، وإن ما يقف خلف هذا الإحساس بالعجز إنما هو «افتقار الإنسان إلى الشجاعة والمقدرة على اتخاذ القرار». ويخلص (بعد تفسير مطول) إلى أنه «في قضايا المصلحة العامة مثلاً، يتوجب أن يكون ثمة قسط من الانتظام العام (الدولة)... وأن الواجب الأول الذي يتعين على كل دولة متنورة أن تمارسه إنما يكمن في تربية الناس على مفهوم الحرية، أما احترام النقد والاستقلال الفكري فيتعين أن يعتبر واحداً من المبادئ الأساسية في الوجود».
منصور الجمري
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2952 - الأربعاء 06 أكتوبر 2010م الموافق 27 شوال 1431هـ