[size=24]رحل «محمد حسنين هيكل» عن الدنيا بعد حياة طويلة، حافلة بالمسرات والأحزان، وبالعمل الشاق والجهد المتواصل، الذي صعد به من شاب ينتمي إلى أسرة من الطبقة الوسطى الصغيرة، إلى قمة الهرم الاجتماعي، ليصبح أحد أهم الصحفيين العالميين في النصف الثاني من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لم يحدث ذلك بالمصادفة، ولم يتحقق بضربة حظ قادته لأن يتعرف بواحد من صناع التاريخ في العصر الذي عاشه، وهو الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» ولكنه حدث لأن كليهما اختار عن وعي، أن يستجيب لضرورات العصر وسخَّر كل مواهبه المنفردة، لكي يساند التطلعات المشروعة للشعب الذي أنجبه والأمة التي ينتمي إليها والإنسانية التي كانا جزءا منها..
ذلك هو الزمن الذي اكتوت فيه شعوب المعمورة بنيران الحرب العالمية الثانية، التي فقدت خلالها عشرين مليونا من البشر روت دماؤهم ميادين القتال على امتداد خمس سنوات، ولم تتوقف إلا حين دمرت القنابل الذرية، جزيرتي «هيروشيما» و«نجازاكي» ليولد العالم الجديد من رحم الآلام التي تحملتها شعوب المستعمرات، التي لم يكن لها ناقة ولا جمل في تلك الحرب، فلم تكد نيرانها تخمد، حتى زحفت تطالب بحقها في الاستقلال والحرية وتقرير المصير وتؤسس لمرحلة جديدة من مراحل حركة التمرد الوطني، وتصوغ أفكارها وتنظيماتها ومصطلحاتها التي جمعت بين الحياد الإيجابي والتعايش السلمي، وبين الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، وبين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، وبين روح مؤتمر باندونج وحركة العالم الثالث ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومؤتمر التضامن الآسيوي الإفريقي ليتخلق من ذلك كله معسكر التحرر الوطني، الذي سعى لكي يؤسس لنظام عالمي جديد يتيح للدول المتحررة حديثا، أن تجد لها مكانا في عصر الحرب الباردة.
كان ذلك هو المعسكر الذي اختارت الحركة الوطنية المصرية، بقيادة «عبدالناصر» أن تقف فيه بعد ثورة 23 يوليو 1952، وهو المعسكر الذي اختار «محمد حسنين هيكل» -عن وعي- أن يقف فيه، وكان هذا الاختيار، هو أساس الصداقة الشخصية التي جمعت بينه وبين «عبدالناصر» ودفعته لأن يوظف كل مواهبه المتفردة -كصحفي وداعية وسياسي ومؤرخ- للدفاع عن رؤى الزعيم، الذي آمن بأنها تخدم مصالح الشعب والأمة والإنسانية، وأن يظل وفياً للموقف الذي اختاره، حتى بعد أن تقلبت أحوال السياسة في مصر والعالم العربي والعالم، وحتى رحيله هو نفسه بعد ما يقرب من نصف القرن على رحيل الزعيم.
لم تكن العلاقة بين «عبدالناصر» و«هيكل» تنويعاً على هذا النمط المبتذل والشائع للعلاقة بين المثقف والسلطة، التي تقوم على تبادل المنافع أو نموذجا للنفاق السوقي الذي يدفع الصحفي للتذيل لكل صاحب سلطة، بحثاً عن مكاسب دنيوية صغيرة، بل كانت علاقة راقية تقوم على الرؤى المشتركة وتستهدف خدمة ما يعتقد كل منهما أنه يحقق مصالح الشعب والوطن والأمة، إذ لم يكن «هيكل» خالياً من المواهب التي تمكنه من تحقيق طموحاته الشخصية والمهنية بعيداً عن السلطة، وما تحقق له من مكانه دولية، بعد رحيل عبدالناصر عن الدنيا، ورحيله هو نفسه عن «الأهرام»، أضعاف ما تحقق له من مكانة ونفوذ، حين كان «عبدالناصر» لايزال صاحب السلطة.
على الصعيد المهني، ظل «هيكل» على امتداد حياته المهنية، التى وصلت إلى 75 عاما، مخلصاً للمهنة التي أحبها وأخلص لها ورفض كل العروض التي قدمت له، لكي يتولى ما يعتقد آخرون غيره، انها مناصب أرقى من المناصب التي شغلها في بلاطه، إلى أن أصدر «عبدالناصر» -في آخر وزارة شكلها برئاسته قبل رحيله- قراراً بتعيينه وزيراً للإعلام دون علمه ودون موافقته، ولم يستمر في موقعه سوى عدة شهور، استقال بعدها من المنصب.. ورفض في عهد «السادات» عروضاً لكي يتولى منصب المستشار الصحفي للرئيس مرة، ونائب رئيس الوزراء مرة أخرى، وأصر منذ اللحظة التي غادر فيها موقعه في «الأهرام» بسبب خلافه مع «السادات» حول الاستثمار السياسي لثمار حرب أكتوبر، على أن يمارس المهنة من مكتبه في منزله، وفضل أن يكون «صحفيا بالقطعة» عن أن يكون نائبا لرئيس الوزراء.
وإلى «محمد حسنين هيكل» يعود الفضل في تأسيس مدرسة صحفية عربية، تمزج بين الرأي والخبر، وبين الجدية والجاذبية، وبين الفكر والفرجة، إذ كان بين تلاميذ «محمد التابعي» -مؤسس الصحافة العربية الحديثة- أقربهم إلى منهجه. وفي حين اتجه هؤلاء إلى صحافة الإثارة، التي ترفع شعار «أن يعض الكلب رجلاً فهذا ليس خبرا.. الخبر أن يعض الرجل كلبا» وهي القاعدة التي تأسست عليها مدرسة «أخبار اليوم»، حرص «محمد حسنين هيكل» -عندما تولى رئاسة تحرير «الأهرام» عام 1957- على أن يقدم نموذجا للصحافة الرصينة والجذابة، وأن يمزج بين صحافة الخبر الصادق والموثق، وبين صحافة الرأى المتنوع، وخلال خمس سنوات، كان قد ضم إلى أسرة تحرير «الأهرام» ألمع كتاب وأدباء وصحفيي مصر والعالم العربي، ونجح في تجديد شباب أقدم الصحف العربية التي كانت توشك على الإفلاس، وارتفع بتوزيعها إلى ما يقرب من مليون نسخة يوميا!
وهكذا كان «محمد حسنين هيكل» سلة من القيم الفاضلة، لم يكف على امتداد عمره، عن العمل وعن التفكير وعن القراءة والكتابة، وعن الاجتهاد في الشؤون العامة، ولم يفقد للحظة واحدة، إيمانه بالشعب وإصراره على مواصلة الدفاع عن مصالح الوطن والأمة والإنسانية، وهذا الذي سوف يحفر اسمه في التاريخ!
[/size]
لم يحدث ذلك بالمصادفة، ولم يتحقق بضربة حظ قادته لأن يتعرف بواحد من صناع التاريخ في العصر الذي عاشه، وهو الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» ولكنه حدث لأن كليهما اختار عن وعي، أن يستجيب لضرورات العصر وسخَّر كل مواهبه المنفردة، لكي يساند التطلعات المشروعة للشعب الذي أنجبه والأمة التي ينتمي إليها والإنسانية التي كانا جزءا منها..
ذلك هو الزمن الذي اكتوت فيه شعوب المعمورة بنيران الحرب العالمية الثانية، التي فقدت خلالها عشرين مليونا من البشر روت دماؤهم ميادين القتال على امتداد خمس سنوات، ولم تتوقف إلا حين دمرت القنابل الذرية، جزيرتي «هيروشيما» و«نجازاكي» ليولد العالم الجديد من رحم الآلام التي تحملتها شعوب المستعمرات، التي لم يكن لها ناقة ولا جمل في تلك الحرب، فلم تكد نيرانها تخمد، حتى زحفت تطالب بحقها في الاستقلال والحرية وتقرير المصير وتؤسس لمرحلة جديدة من مراحل حركة التمرد الوطني، وتصوغ أفكارها وتنظيماتها ومصطلحاتها التي جمعت بين الحياد الإيجابي والتعايش السلمي، وبين الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، وبين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، وبين روح مؤتمر باندونج وحركة العالم الثالث ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومؤتمر التضامن الآسيوي الإفريقي ليتخلق من ذلك كله معسكر التحرر الوطني، الذي سعى لكي يؤسس لنظام عالمي جديد يتيح للدول المتحررة حديثا، أن تجد لها مكانا في عصر الحرب الباردة.
كان ذلك هو المعسكر الذي اختارت الحركة الوطنية المصرية، بقيادة «عبدالناصر» أن تقف فيه بعد ثورة 23 يوليو 1952، وهو المعسكر الذي اختار «محمد حسنين هيكل» -عن وعي- أن يقف فيه، وكان هذا الاختيار، هو أساس الصداقة الشخصية التي جمعت بينه وبين «عبدالناصر» ودفعته لأن يوظف كل مواهبه المتفردة -كصحفي وداعية وسياسي ومؤرخ- للدفاع عن رؤى الزعيم، الذي آمن بأنها تخدم مصالح الشعب والأمة والإنسانية، وأن يظل وفياً للموقف الذي اختاره، حتى بعد أن تقلبت أحوال السياسة في مصر والعالم العربي والعالم، وحتى رحيله هو نفسه بعد ما يقرب من نصف القرن على رحيل الزعيم.
لم تكن العلاقة بين «عبدالناصر» و«هيكل» تنويعاً على هذا النمط المبتذل والشائع للعلاقة بين المثقف والسلطة، التي تقوم على تبادل المنافع أو نموذجا للنفاق السوقي الذي يدفع الصحفي للتذيل لكل صاحب سلطة، بحثاً عن مكاسب دنيوية صغيرة، بل كانت علاقة راقية تقوم على الرؤى المشتركة وتستهدف خدمة ما يعتقد كل منهما أنه يحقق مصالح الشعب والوطن والأمة، إذ لم يكن «هيكل» خالياً من المواهب التي تمكنه من تحقيق طموحاته الشخصية والمهنية بعيداً عن السلطة، وما تحقق له من مكانه دولية، بعد رحيل عبدالناصر عن الدنيا، ورحيله هو نفسه عن «الأهرام»، أضعاف ما تحقق له من مكانة ونفوذ، حين كان «عبدالناصر» لايزال صاحب السلطة.
على الصعيد المهني، ظل «هيكل» على امتداد حياته المهنية، التى وصلت إلى 75 عاما، مخلصاً للمهنة التي أحبها وأخلص لها ورفض كل العروض التي قدمت له، لكي يتولى ما يعتقد آخرون غيره، انها مناصب أرقى من المناصب التي شغلها في بلاطه، إلى أن أصدر «عبدالناصر» -في آخر وزارة شكلها برئاسته قبل رحيله- قراراً بتعيينه وزيراً للإعلام دون علمه ودون موافقته، ولم يستمر في موقعه سوى عدة شهور، استقال بعدها من المنصب.. ورفض في عهد «السادات» عروضاً لكي يتولى منصب المستشار الصحفي للرئيس مرة، ونائب رئيس الوزراء مرة أخرى، وأصر منذ اللحظة التي غادر فيها موقعه في «الأهرام» بسبب خلافه مع «السادات» حول الاستثمار السياسي لثمار حرب أكتوبر، على أن يمارس المهنة من مكتبه في منزله، وفضل أن يكون «صحفيا بالقطعة» عن أن يكون نائبا لرئيس الوزراء.
وإلى «محمد حسنين هيكل» يعود الفضل في تأسيس مدرسة صحفية عربية، تمزج بين الرأي والخبر، وبين الجدية والجاذبية، وبين الفكر والفرجة، إذ كان بين تلاميذ «محمد التابعي» -مؤسس الصحافة العربية الحديثة- أقربهم إلى منهجه. وفي حين اتجه هؤلاء إلى صحافة الإثارة، التي ترفع شعار «أن يعض الكلب رجلاً فهذا ليس خبرا.. الخبر أن يعض الرجل كلبا» وهي القاعدة التي تأسست عليها مدرسة «أخبار اليوم»، حرص «محمد حسنين هيكل» -عندما تولى رئاسة تحرير «الأهرام» عام 1957- على أن يقدم نموذجا للصحافة الرصينة والجذابة، وأن يمزج بين صحافة الخبر الصادق والموثق، وبين صحافة الرأى المتنوع، وخلال خمس سنوات، كان قد ضم إلى أسرة تحرير «الأهرام» ألمع كتاب وأدباء وصحفيي مصر والعالم العربي، ونجح في تجديد شباب أقدم الصحف العربية التي كانت توشك على الإفلاس، وارتفع بتوزيعها إلى ما يقرب من مليون نسخة يوميا!
وهكذا كان «محمد حسنين هيكل» سلة من القيم الفاضلة، لم يكف على امتداد عمره، عن العمل وعن التفكير وعن القراءة والكتابة، وعن الاجتهاد في الشؤون العامة، ولم يفقد للحظة واحدة، إيمانه بالشعب وإصراره على مواصلة الدفاع عن مصالح الوطن والأمة والإنسانية، وهذا الذي سوف يحفر اسمه في التاريخ!
[/size]