تكالبت الظروف مجتمعة ضد ابناء الشعب السوري، دون تمييز عرق او اثن او قومية، فالجميع باتوا يعانون براثن الاقتتال الدموي الدائر هناك وتداعياته المؤلمة، خصوصا بعد ان لعبت الجماعات الارهابية على وتر معاقبة الشعب عبر اعاقة وصول الامدادات الغذائية والانسانية للمناطق التي يهيمنون عليها اضافة الى محاصرة المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية.
وهذا ما يعكس بشكل جلي طبيعة الاجندات السياسية التي تقف وراءها قطر والسعودية وبعض الدول الاوربية الطامعة في احتلال سوريا، ضاربة عرض الحائط جميع المواثيق والاتفاقيات التي ضمنتها معاهدة جنيف للحرب.
فبعد فشل تلك المجاميع التكفيرية في تحقيق مبتغاها باسقاط نظام الاسد، عمدت بشكل مباشر ومن ورائها الدول المحرضة على العنف الى صب جام غضبها على المدنيين العزل، بالقتل والتنكيل تارة، والتجويع والحصار تارة أخرى، وباتت سوريا بحسب المنظمات الانسانية على قاب قوسين من مجاعة قاتلة.
نقص الخبز
اذ يتحول الخبز شيئا فشيئا مادة نادرة في غالبية المناطق السورية، ما يحرم السكان من القوت الاساسي في غذائهم ويغرقهم اكثر فأكثر في ازمة انسانية صعبة، بحسب ما يقول بعض هؤلاء وعدد من الناشطين.
وفي خطوة تمثل اقرارا بوجود هذه المشكلة، اقدمت الحكومة السورية على تشكيل لجنة رسمية لمتابعة تأمين هذه المادة والحفاظ على اسعارها الرسمية. في الاحياء القديمة في مدينة حمص (وسط) التي تخضع للقوات النظامية، يبدو ان الوضع هو الاكثر سوءا.
ويقول ناشط في المدينة قدم نفسه باسم "ابو خالد" (30 عاما) عبر الانترنت "نضطر الى استخدام طحين منتهي الصلاحية. رمينا نحو ثلث الكمية لان الدود كان ينخرها، كما اننا نفتقد للخميرة. بالنسبة الى الماء، علينا تكرير المياه غير الصالحة للاستهلاك لان مياه الشفة مقطوعة".
وبحسب ما يقول ابو بكر المقيم ايضا في حمص "اسوأ ما في الامر هو ان الذين يعانون مشاكل صحية، مثل السكري او القصور الكلوي. لا يمكنهم الاستمرار على قيد الحياة مع تغذية مماثلة".
ويضيف "انهم يأكلون البرغل والطماطم المجففة، لكن الى متى؟ حتى كمية الغذاء التي نجدها في المنازل التي هجرها اهلها، بدأت تنفد".
في مدينة داريا بريف دمشق الذي يشهد في الفترة الاخيرة عمليات عسكرية واسعة، يحاول السكان انقاذ مخزونهم من الطحين. ويقول "ابو كنان" "اخدنا الطحين من الفرن الآلي الذي كان النظام يقيم حاجزا الى جانبه، ولم يكن في امكان احد الاقتراب منه".
وفي ضاحية جرمانا جنوب شرق دمشق التي تقطنها غالبية موالية للنظام، يؤكد محمد، وهو سائق سيارة اجرة، انه يضطر "للانتظار ساعتين او ثلاث امام المخبز". ويقول "اقف في الصف خلال الليل لئلا اخسر ساعات العمل خلال النهار". ويضيف "ابتاع ربطة من 15 رغيفا بسعر 15 ليرة سورية (16 سنتا اميركيا في السوق السوداء). لكن البعض يشترون الربطات لاعادة بيعها امام الفرن بسعر 50 ليرة سورية".
في محافظة الرقة الشمالية على الحدود مع تركيا، "الاوضاع الانسانية لم تعد تطاق"، بحسب ما قال ناشط من المحافظة قدم نفسه باسم ثائر الرقي. ويشير الى ان "ربطة الخبز صار ثمنها دولارين إن وجدت. هناك نقص حاد في مادة الخبز" يؤثر على سكان المحافظة والذين نزحوا اليها من المناطق المجاورة.
في حلب كبرى مدن شمال البلاد ومحيطها، بات السكان يواجهون صعوبة في العثور على الخبز للمرة الاولى منذ بدء المعارك اليومية في المدينة منذ اكثر من اربعة اشهر. بحسب فرانس برس.
ويقول داود وهو شاب في العقد الثاني من العمر من سكان حي السريان القديم وسط المدينة أن "الفرنين الموجودين في الحي لم يعملا منذ السبت بسبب عدم توافر الطحين والوقود (المازوت) لتشغيل الفرن ما زاد من معاناة قاطني الحي المكتظ بالسكان والوافدين كونه يعتبر من الأحياء الآمنة في المدينة".
ويشير داود الذي يقطن مع والدته الى ان نقص الخبر لم يؤثر عليه كثيرا "نحن شخصان في المنزل ويمكننا تدارك المشكلة اذا لم تطل مدتها، ولكن هناك الكثير من العائلات الكبيرة التي يفوق عدد أفرادها العشرة وتعتمد على الخبر كمادة أساسية للغذاء. لن يكون الأمر سهلا بالنسبة اليهم".
ويقول مصطفى وهو اب لخمسة اولاد ويقيم في منطقة الجميلية في وسط حلب "هناك فرن حكومي واحد قريب من منزلي ما زال ينتج الخبز، لكن الحصول عليه مستحيل في ظل طوابير طويلة من المصطفين والمنتظرين"، متحدثا عن "مشاكل وشجارات ترافق الانتظار".
وادى النقص في المادة الى ارتفاع اسعار الخبز في غالبية احياء حلب والمناطق المحيطة بها. ويقول مصطفى ان "توقف الأفران عن العمل ترك السكان تحت رحمة عدد قليل جدا من أفران المعجنات المصنعة لمادة الخبز ايضا، حيث تجاوز سعر ربطة الخبز فيها المئتي ليرة سورية رغم ان سعرها الرسمي 15 ليرة".
وافادت وكالة الانباء السورية الرسمية (سانا) عن قرار رئيس الحكومة السورية وائل الحلقي تشكيل لجنة رسمية مهمتها "متابعة كل الموضوعات المتعلقة بتأمين مادة الخبز من كل النواحي"، واتخاذ "كل الاجراءات الكفيلة لضمان توفير المادة للمواطنين وبالاسعار الرسمية".
ويوضح ابو سامر، وهو في العقد الخامس من العمر وصاحب فرن آلي صغير في حلب، ان ارتفاع الاسعار يعود الى "عدم توافر مادة المازوت الذي وصلت قيمته في السوق السوداء إلى أكثر من اربعة أضعاف السعر الرسمي، وفقدان مادة الطحين التي باتت تباع في السوق السوداء من منشأ تركي وبأسعار مرتفعة".
ويعتقد ان المشكلة ستطول لان "لا يوجد حل في المدى المنظور"، اضافة الى ان "الكثير من السكان اكدوا قيام المقاتلين المعارضين بالاستيلاء على عدد من اهراءات القمح في عدد من مناطق ريف حلب الشرقي والجنوبي".
الجوع يهدد مليون شخص
من جهتها قالت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي ان تدهور الأمن في سوريا يعني عجز منظمات الاغاثة عن الوصول الى مليون شخص يتهددهم الجوع مع اقتراب فصل الشتاء. وقالت الأمم المتحدة انها ستعلق عمليات الإغاثة في سوريا في ظل اتجاه البلاد الى حالة من الفوضى مع احتدام الصراع المستمر منذ 20 شهرا ومحاصرة العنف لمزيد من المدنيين.
لكن مديرة برنامج الأغذية العالمي ارثارين كازين قالت انه لم يتم سحب سوى العاملين الاداريين غير الأساسيين من فريق الأمم المتحدة. واضافت إن برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة سيواصل أعماله في الوقت الراهن "وسوف نبقي على أكبر عدد من العاملين في سوريا ولأطول فترة ممكنة".
وتابعت كازين ان 2.5 مليون شخص في حاجة للمساعدة وان برنامج الأغذية العالمي تمكن من الوصول الى 1.5 مليون منهم في نوفمبر تشرين الثاني مقابل 250 ألفا في ابريل نيسان. ومن بين الجهود الرئيسية المطلوبة مع اشتداد برد الشتاء توزيع أغطية ووقود للطهي والتدفئة.
وقالت كازين "الأمن... غير موجود". وأضافت إن برنامج الأغذية العالمي تنقصه التجهيزات والقدرة على الوصول للمحتاجين "وتشير التقديرات الى أن عدد (المحتاجين للمساعدة خلال الأشهر القادمة) يمكن أن يصل الى أربعة ملايين." بحسب رويترز.
وتقوم بتوزيع مساعدات برنامج الأغذية العالمي أساسا جمعية الهلال الأحمر العربي السوري وعدد محدود من الجمعيات المحلية المشاركة. ويضم المحتاجون نحو 1.1 مليون شخص أجبروا على النزوح عن ديارهم ويتقاسمون السكن أو يقيمون في المباني العامة.
وقالت كازين "في الحقيقة ليس من المعروف الى اي مدى سيتطور الوضع ومع تفاقم الصراع في الشمال من غير المعروف ماذا سيحدث في دمشق وحولها. من الصعب القول ماذا ستكون النتيجة في الأشهر القادمة."
وتم إعادة نشر بعض العاملين في برنامج الأغذية من حلب الى دمشق التي شهدت بعضا من أشرس جولات القتال وأعنف أعمال القصف في الأشهر القليلة الماضية. وقالت كازين "لم نستطع الوصول الى وسط حلب لبعض الوقت... في الأسابيع الماضية أصبح الوضع أكثر صعوبة بالنسبة لنا كي نعمل في ضواحي (المدينة)."
انقطاع الكهرباء ونقص وقود الديزل
الى ذلك تواجه العاصمة السورية أسوأ انقطاعات للكهرباء منذ 20 شهرا حيث أصبحت فترات الانقطاع أطول إلى جانب النقص الشديد في زيت التدفئة والديزل. وقال سكان ومسؤولون في العاصمة دمشق عبر الهاتف ان أجزاء كثيرة من وسط دمشق -مقر حكم الرئيس السوري بشار الاسد- تشهد الآن انقطاعات للكهرباء تتراوح بين سبع وتسع ساعات وهو نحو مثلي فترات الانقطاع التي كانت ترد بها تقارير قبل أسبوعين.
ويأتي انقطاع الكهرباء في وقت تتزايد فيه الضغوط على دمشق. وتسعى قوات المعارضة المُسلحة الى التقدم من الضواحي إلى العاصمة نفسها. ورد الجيش السوري بقصف الضواحي بالمدفعية والطيران.
ونقلت وسائل إعلام حكومية عن مصدر رسمي قوله ان زيادة ساعات ترشيد الكهرباء في مناطق بالعاصمة ترجع إلى "التخريب الذي يقوم به ارهابيون مسلحون" لأبراج الضغط العالي التي تغذي الاحياء الجنوبية لدمشق.
ويقول سكان ان انقطاع الكهرباء خلال الاسبوع الماضي تضاعف تقريبا ليصل إلى متوسط 12 ساعة يوميا في اكثر المناطق تضررا مثل ضاحية جرمانا الجنوبية الشرقية وإلى ست ساعات على الاقل يوميا في عدد من احياء وسط العاصمة الرئيسية مثل الميدان.
وقال انس عطري من حي جرمانا الذي تصاعد القتال على مشارفه قرب المطار "اذا جمعت عدد الساعات التي تكون فيها الكهرباء موجودة فهي ساعتان او ثلاث فقط وتكون الكهرباء مقطوعة بقية اليوم."
وعلى خلاف الريف الذي شهد اسوأ موجات العنف ظل وسط دمشق حتى الشهر الماضي بعيدا عن انقطاعات الكهرباء الطويلة التي شهدتها مناطق اخرى في سوريا.
وزادت الحكومة في الوقت الحالي ثمن لتر البنزين إلى 55 ليرة بدلا من 50 ليرة (60 سنتا) في ثاني زيادة منذ بداية الانتفاضة في مارس آذار من العام الماضي.
وقالت وكالة الانباء العربية السورية ان السلطات تحاول السيطرة على التهريب وخفض التكلفة الكبيرة لدعم الوقود والكهرباء في وقت تواجه فيه سوريا نقصا حادا في العملة الصعبة بسبب العقوبات الدولية.
وساهمت قدرة الدولة على تخفيف نقص الوقود والسيطرة على اسعار بعض السلع الاساسية حتى الان في تشبث الاسد بالسلطة حيث تحصل العائلات على احتياجاتها الاساسية.
لكن السكان يقولون ان تكلفة المواصلات العامة تضاعفت منذ الشهر الماضي مع اقتراب القتال من دمشق. ويقول شهود عيان ان عددا من محطات البنزين الرئيسية في شوارع بغداد وساحتي التحرير والعباسيين تواجه نقصا حادا في الوقود وامتدادا في طوابير السيارات.
وقال عبد الله الحسن الموظف في صرافة في منطقة البحيرات السبعة في دمشق "المشكلة ان الاشياء تأتي متلاحقة - نقص المواصلات والازمة في الديزل والمزيد والمزيد من الضغوط التي تجعل الحياة لا تحتمل."
وقال رجال أعمال وسكان ان أسوأ موجات نقص الوقود كانت في وقود الديزل المستخدم على نطاق واسع في زيت التدفئة بالمنازل وفي العربات والصناعة. وارتفع سعر الديزل في السوق السوداء خلال اليومين الماضيين إلى اكثر من 80 ليرة للتر (نحو دولار بأسعار السوق السوداء).
ويقول سكان ان النقص في الديزل دفع محطات الوقود التي تديرها الدولة إلى عدم الالتزام بالسعر الرسمي وهو 20 ليرة للتر حيث تحولت إلى بيعه بأكثر من 35 ليرة للتر.
الأدوية .. أحدث البضائع في السوق السوداء
وإلى جانب البنادق وأقراص الفيديو المدمجة المقرصنة والعملات الأجنبية ظهر نوع جديد من البضائع في السوق السوداء المنتعشة بسوريا التي تمزقها الحرب.. الا وهو الامدادات الطبية المسروقة.
كانت منظومة الرعاية الصحية الحكومية الضخمة التي تفتقر للتمويل تعاني بالفعل عندما بدأت الاحتجاجات للمطالبة بالحقوق الديمقراطية في مارس آذار 2011. ودفع الرئيس السوري بشار الأسد وهو طبيب عيون بقوات لسحق الثورة المستمرة منذ 20 شهرا والتي خلفت 40 ألف قتيل.
وتقول الحكومة إن أكثر من نصف المستشفيات السورية أصابه الدمار حاليا ونحو 25 بالمئة منها لا يعمل. ويقول أطباء أن المقاتلين والميليشيات نهبت الامدادات الطبية من المستشفيات لاستخدامها في ساحات المعارك بينما سرق مجرمون معدات لبيعها.
وذكرت ممرضة تبلغ من العمر 30 عاما من حي السيدة زينب في دمشق "في أحيان كثيرة اضطر أنا وأطباء آخرون إلى أن نساهم بأموالنا لشراء معدات للمستشفى لأنها سرقت."
وتقول الممرضة إن حي السيدة زينب يخضع ظاهريا لسيطرة الحكومة لكن قوات الأمن أنهكت بسبب المعارك مع قوات المعارضة في مواقع أخرى وانتهزت الجماعات المسلحة هشاشة الوجود الأمني لتنهب المستشفيات عدة مرات. وأضافت "لا يمكن أن نشتري الأدوية بأنفسنا للأبد."
ولا تبيع الكثير من الصيدليات سوى عقاقير محدودة مثل مسكنات الألم الشائعة والاسعافات الأولية الأساسية. وتسبب الصراع في صعوبة السفر في أنحاء البلاد ما يعوق حصول الصيدليات على ما ينقصها من الأدوية.
يقول سكان إنهم يلجأون إلى السوق السوداء لتوفير احتياجات أكثر تحديدا. وقال أطباء في حلب ودير الزور وضواحي دمشق وجميعها ساحات للقتال إن بعض المرضى اشتروا ما يحتاجونه مثل أسطوانات الأكسجين والتخدير. بحسب رويترز.
وأضافوا أن المرضى اليائسين يمكن أن يشتروا أي شيء من القفازات الجراحية إلى أجهزة الأشعة السينية والغسيل الكلوي بأسعار مرتفعة من السوق السوداء.
والحصول على الرعاية الصحية في وسط دمشق وهي منطقة نجحت قوات الحكومة حتى الآن في حمايتها من زحف المعارضة المسلحة أفضل مقارنة بأحياء يهيمن عليها المقاتلون أو يتنازعون السيطرة عليها مع القوات الحكومية مثل حي السيدة زينب.
وذكر طبيب في مستشفى حكومي في ضاحية المزة بوسط دمشق أن هناك نقصا لكن يمكن التغلب عليه. وقال "هناك نقص في المضادات الحيوية وأدوية الحالات المزمنة." مضيفا أن الأدوية التي تنتهي صلاحيتها يصعب أحيانا إعادة تخزينها. وتابع "بالطبع أشعر بالقلق إزاء الموقف لأنه يصعب التنبؤ به. لا تعرف ما هو النقص الذي ستواجهه من شهر لآخر." وذكر أن المستشفى يغطي بالكاد احتياجاته الشهرية.
واستطرد أن تدهور الموقف أو تحسنه يتوقف على قدرة شركات الأدوية السورية التي تنتج 90 في المئة من احتياجات السوق المحلية من الأدوية والعقاقير على الاستمرار في نشاطها. لكن الأمر لا يبدو مبشرا.
يقول الطبيب إن 70 في المئة من انتاج الأدوية توقف في حلب بعد أن اجتاح المقاتلون المدينة في يوليو تموز ما أدى إلى اندلاع قتال عنيف.
وفي أغسطس قالت منظمة الصحة العالمية أن معظم شركات الأدوية السورية أغلقت أبوابها. وذكر طبيب من حلب أن نقص الامدادات شديد في بعض المستشفيات لدرجة أن الأطباء يضطرون أحيانا لاجراء عمليات جراحية دون توافر المعدات الضرورية. وأضاف "بعض المعدات باهظة الثمن بحيث لا يمكن أن نشتريها مرة أخرى. لا يمكن أن نعثر على بديل بسعر معقول لجهاز الأشعة السينية."
وهذا ما يعكس بشكل جلي طبيعة الاجندات السياسية التي تقف وراءها قطر والسعودية وبعض الدول الاوربية الطامعة في احتلال سوريا، ضاربة عرض الحائط جميع المواثيق والاتفاقيات التي ضمنتها معاهدة جنيف للحرب.
فبعد فشل تلك المجاميع التكفيرية في تحقيق مبتغاها باسقاط نظام الاسد، عمدت بشكل مباشر ومن ورائها الدول المحرضة على العنف الى صب جام غضبها على المدنيين العزل، بالقتل والتنكيل تارة، والتجويع والحصار تارة أخرى، وباتت سوريا بحسب المنظمات الانسانية على قاب قوسين من مجاعة قاتلة.
نقص الخبز
اذ يتحول الخبز شيئا فشيئا مادة نادرة في غالبية المناطق السورية، ما يحرم السكان من القوت الاساسي في غذائهم ويغرقهم اكثر فأكثر في ازمة انسانية صعبة، بحسب ما يقول بعض هؤلاء وعدد من الناشطين.
وفي خطوة تمثل اقرارا بوجود هذه المشكلة، اقدمت الحكومة السورية على تشكيل لجنة رسمية لمتابعة تأمين هذه المادة والحفاظ على اسعارها الرسمية. في الاحياء القديمة في مدينة حمص (وسط) التي تخضع للقوات النظامية، يبدو ان الوضع هو الاكثر سوءا.
ويقول ناشط في المدينة قدم نفسه باسم "ابو خالد" (30 عاما) عبر الانترنت "نضطر الى استخدام طحين منتهي الصلاحية. رمينا نحو ثلث الكمية لان الدود كان ينخرها، كما اننا نفتقد للخميرة. بالنسبة الى الماء، علينا تكرير المياه غير الصالحة للاستهلاك لان مياه الشفة مقطوعة".
وبحسب ما يقول ابو بكر المقيم ايضا في حمص "اسوأ ما في الامر هو ان الذين يعانون مشاكل صحية، مثل السكري او القصور الكلوي. لا يمكنهم الاستمرار على قيد الحياة مع تغذية مماثلة".
ويضيف "انهم يأكلون البرغل والطماطم المجففة، لكن الى متى؟ حتى كمية الغذاء التي نجدها في المنازل التي هجرها اهلها، بدأت تنفد".
في مدينة داريا بريف دمشق الذي يشهد في الفترة الاخيرة عمليات عسكرية واسعة، يحاول السكان انقاذ مخزونهم من الطحين. ويقول "ابو كنان" "اخدنا الطحين من الفرن الآلي الذي كان النظام يقيم حاجزا الى جانبه، ولم يكن في امكان احد الاقتراب منه".
وفي ضاحية جرمانا جنوب شرق دمشق التي تقطنها غالبية موالية للنظام، يؤكد محمد، وهو سائق سيارة اجرة، انه يضطر "للانتظار ساعتين او ثلاث امام المخبز". ويقول "اقف في الصف خلال الليل لئلا اخسر ساعات العمل خلال النهار". ويضيف "ابتاع ربطة من 15 رغيفا بسعر 15 ليرة سورية (16 سنتا اميركيا في السوق السوداء). لكن البعض يشترون الربطات لاعادة بيعها امام الفرن بسعر 50 ليرة سورية".
في محافظة الرقة الشمالية على الحدود مع تركيا، "الاوضاع الانسانية لم تعد تطاق"، بحسب ما قال ناشط من المحافظة قدم نفسه باسم ثائر الرقي. ويشير الى ان "ربطة الخبز صار ثمنها دولارين إن وجدت. هناك نقص حاد في مادة الخبز" يؤثر على سكان المحافظة والذين نزحوا اليها من المناطق المجاورة.
في حلب كبرى مدن شمال البلاد ومحيطها، بات السكان يواجهون صعوبة في العثور على الخبز للمرة الاولى منذ بدء المعارك اليومية في المدينة منذ اكثر من اربعة اشهر. بحسب فرانس برس.
ويقول داود وهو شاب في العقد الثاني من العمر من سكان حي السريان القديم وسط المدينة أن "الفرنين الموجودين في الحي لم يعملا منذ السبت بسبب عدم توافر الطحين والوقود (المازوت) لتشغيل الفرن ما زاد من معاناة قاطني الحي المكتظ بالسكان والوافدين كونه يعتبر من الأحياء الآمنة في المدينة".
ويشير داود الذي يقطن مع والدته الى ان نقص الخبر لم يؤثر عليه كثيرا "نحن شخصان في المنزل ويمكننا تدارك المشكلة اذا لم تطل مدتها، ولكن هناك الكثير من العائلات الكبيرة التي يفوق عدد أفرادها العشرة وتعتمد على الخبر كمادة أساسية للغذاء. لن يكون الأمر سهلا بالنسبة اليهم".
ويقول مصطفى وهو اب لخمسة اولاد ويقيم في منطقة الجميلية في وسط حلب "هناك فرن حكومي واحد قريب من منزلي ما زال ينتج الخبز، لكن الحصول عليه مستحيل في ظل طوابير طويلة من المصطفين والمنتظرين"، متحدثا عن "مشاكل وشجارات ترافق الانتظار".
وادى النقص في المادة الى ارتفاع اسعار الخبز في غالبية احياء حلب والمناطق المحيطة بها. ويقول مصطفى ان "توقف الأفران عن العمل ترك السكان تحت رحمة عدد قليل جدا من أفران المعجنات المصنعة لمادة الخبز ايضا، حيث تجاوز سعر ربطة الخبز فيها المئتي ليرة سورية رغم ان سعرها الرسمي 15 ليرة".
وافادت وكالة الانباء السورية الرسمية (سانا) عن قرار رئيس الحكومة السورية وائل الحلقي تشكيل لجنة رسمية مهمتها "متابعة كل الموضوعات المتعلقة بتأمين مادة الخبز من كل النواحي"، واتخاذ "كل الاجراءات الكفيلة لضمان توفير المادة للمواطنين وبالاسعار الرسمية".
ويوضح ابو سامر، وهو في العقد الخامس من العمر وصاحب فرن آلي صغير في حلب، ان ارتفاع الاسعار يعود الى "عدم توافر مادة المازوت الذي وصلت قيمته في السوق السوداء إلى أكثر من اربعة أضعاف السعر الرسمي، وفقدان مادة الطحين التي باتت تباع في السوق السوداء من منشأ تركي وبأسعار مرتفعة".
ويعتقد ان المشكلة ستطول لان "لا يوجد حل في المدى المنظور"، اضافة الى ان "الكثير من السكان اكدوا قيام المقاتلين المعارضين بالاستيلاء على عدد من اهراءات القمح في عدد من مناطق ريف حلب الشرقي والجنوبي".
الجوع يهدد مليون شخص
من جهتها قالت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي ان تدهور الأمن في سوريا يعني عجز منظمات الاغاثة عن الوصول الى مليون شخص يتهددهم الجوع مع اقتراب فصل الشتاء. وقالت الأمم المتحدة انها ستعلق عمليات الإغاثة في سوريا في ظل اتجاه البلاد الى حالة من الفوضى مع احتدام الصراع المستمر منذ 20 شهرا ومحاصرة العنف لمزيد من المدنيين.
لكن مديرة برنامج الأغذية العالمي ارثارين كازين قالت انه لم يتم سحب سوى العاملين الاداريين غير الأساسيين من فريق الأمم المتحدة. واضافت إن برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة سيواصل أعماله في الوقت الراهن "وسوف نبقي على أكبر عدد من العاملين في سوريا ولأطول فترة ممكنة".
وتابعت كازين ان 2.5 مليون شخص في حاجة للمساعدة وان برنامج الأغذية العالمي تمكن من الوصول الى 1.5 مليون منهم في نوفمبر تشرين الثاني مقابل 250 ألفا في ابريل نيسان. ومن بين الجهود الرئيسية المطلوبة مع اشتداد برد الشتاء توزيع أغطية ووقود للطهي والتدفئة.
وقالت كازين "الأمن... غير موجود". وأضافت إن برنامج الأغذية العالمي تنقصه التجهيزات والقدرة على الوصول للمحتاجين "وتشير التقديرات الى أن عدد (المحتاجين للمساعدة خلال الأشهر القادمة) يمكن أن يصل الى أربعة ملايين." بحسب رويترز.
وتقوم بتوزيع مساعدات برنامج الأغذية العالمي أساسا جمعية الهلال الأحمر العربي السوري وعدد محدود من الجمعيات المحلية المشاركة. ويضم المحتاجون نحو 1.1 مليون شخص أجبروا على النزوح عن ديارهم ويتقاسمون السكن أو يقيمون في المباني العامة.
وقالت كازين "في الحقيقة ليس من المعروف الى اي مدى سيتطور الوضع ومع تفاقم الصراع في الشمال من غير المعروف ماذا سيحدث في دمشق وحولها. من الصعب القول ماذا ستكون النتيجة في الأشهر القادمة."
وتم إعادة نشر بعض العاملين في برنامج الأغذية من حلب الى دمشق التي شهدت بعضا من أشرس جولات القتال وأعنف أعمال القصف في الأشهر القليلة الماضية. وقالت كازين "لم نستطع الوصول الى وسط حلب لبعض الوقت... في الأسابيع الماضية أصبح الوضع أكثر صعوبة بالنسبة لنا كي نعمل في ضواحي (المدينة)."
انقطاع الكهرباء ونقص وقود الديزل
الى ذلك تواجه العاصمة السورية أسوأ انقطاعات للكهرباء منذ 20 شهرا حيث أصبحت فترات الانقطاع أطول إلى جانب النقص الشديد في زيت التدفئة والديزل. وقال سكان ومسؤولون في العاصمة دمشق عبر الهاتف ان أجزاء كثيرة من وسط دمشق -مقر حكم الرئيس السوري بشار الاسد- تشهد الآن انقطاعات للكهرباء تتراوح بين سبع وتسع ساعات وهو نحو مثلي فترات الانقطاع التي كانت ترد بها تقارير قبل أسبوعين.
ويأتي انقطاع الكهرباء في وقت تتزايد فيه الضغوط على دمشق. وتسعى قوات المعارضة المُسلحة الى التقدم من الضواحي إلى العاصمة نفسها. ورد الجيش السوري بقصف الضواحي بالمدفعية والطيران.
ونقلت وسائل إعلام حكومية عن مصدر رسمي قوله ان زيادة ساعات ترشيد الكهرباء في مناطق بالعاصمة ترجع إلى "التخريب الذي يقوم به ارهابيون مسلحون" لأبراج الضغط العالي التي تغذي الاحياء الجنوبية لدمشق.
ويقول سكان ان انقطاع الكهرباء خلال الاسبوع الماضي تضاعف تقريبا ليصل إلى متوسط 12 ساعة يوميا في اكثر المناطق تضررا مثل ضاحية جرمانا الجنوبية الشرقية وإلى ست ساعات على الاقل يوميا في عدد من احياء وسط العاصمة الرئيسية مثل الميدان.
وقال انس عطري من حي جرمانا الذي تصاعد القتال على مشارفه قرب المطار "اذا جمعت عدد الساعات التي تكون فيها الكهرباء موجودة فهي ساعتان او ثلاث فقط وتكون الكهرباء مقطوعة بقية اليوم."
وعلى خلاف الريف الذي شهد اسوأ موجات العنف ظل وسط دمشق حتى الشهر الماضي بعيدا عن انقطاعات الكهرباء الطويلة التي شهدتها مناطق اخرى في سوريا.
وزادت الحكومة في الوقت الحالي ثمن لتر البنزين إلى 55 ليرة بدلا من 50 ليرة (60 سنتا) في ثاني زيادة منذ بداية الانتفاضة في مارس آذار من العام الماضي.
وقالت وكالة الانباء العربية السورية ان السلطات تحاول السيطرة على التهريب وخفض التكلفة الكبيرة لدعم الوقود والكهرباء في وقت تواجه فيه سوريا نقصا حادا في العملة الصعبة بسبب العقوبات الدولية.
وساهمت قدرة الدولة على تخفيف نقص الوقود والسيطرة على اسعار بعض السلع الاساسية حتى الان في تشبث الاسد بالسلطة حيث تحصل العائلات على احتياجاتها الاساسية.
لكن السكان يقولون ان تكلفة المواصلات العامة تضاعفت منذ الشهر الماضي مع اقتراب القتال من دمشق. ويقول شهود عيان ان عددا من محطات البنزين الرئيسية في شوارع بغداد وساحتي التحرير والعباسيين تواجه نقصا حادا في الوقود وامتدادا في طوابير السيارات.
وقال عبد الله الحسن الموظف في صرافة في منطقة البحيرات السبعة في دمشق "المشكلة ان الاشياء تأتي متلاحقة - نقص المواصلات والازمة في الديزل والمزيد والمزيد من الضغوط التي تجعل الحياة لا تحتمل."
وقال رجال أعمال وسكان ان أسوأ موجات نقص الوقود كانت في وقود الديزل المستخدم على نطاق واسع في زيت التدفئة بالمنازل وفي العربات والصناعة. وارتفع سعر الديزل في السوق السوداء خلال اليومين الماضيين إلى اكثر من 80 ليرة للتر (نحو دولار بأسعار السوق السوداء).
ويقول سكان ان النقص في الديزل دفع محطات الوقود التي تديرها الدولة إلى عدم الالتزام بالسعر الرسمي وهو 20 ليرة للتر حيث تحولت إلى بيعه بأكثر من 35 ليرة للتر.
الأدوية .. أحدث البضائع في السوق السوداء
وإلى جانب البنادق وأقراص الفيديو المدمجة المقرصنة والعملات الأجنبية ظهر نوع جديد من البضائع في السوق السوداء المنتعشة بسوريا التي تمزقها الحرب.. الا وهو الامدادات الطبية المسروقة.
كانت منظومة الرعاية الصحية الحكومية الضخمة التي تفتقر للتمويل تعاني بالفعل عندما بدأت الاحتجاجات للمطالبة بالحقوق الديمقراطية في مارس آذار 2011. ودفع الرئيس السوري بشار الأسد وهو طبيب عيون بقوات لسحق الثورة المستمرة منذ 20 شهرا والتي خلفت 40 ألف قتيل.
وتقول الحكومة إن أكثر من نصف المستشفيات السورية أصابه الدمار حاليا ونحو 25 بالمئة منها لا يعمل. ويقول أطباء أن المقاتلين والميليشيات نهبت الامدادات الطبية من المستشفيات لاستخدامها في ساحات المعارك بينما سرق مجرمون معدات لبيعها.
وذكرت ممرضة تبلغ من العمر 30 عاما من حي السيدة زينب في دمشق "في أحيان كثيرة اضطر أنا وأطباء آخرون إلى أن نساهم بأموالنا لشراء معدات للمستشفى لأنها سرقت."
وتقول الممرضة إن حي السيدة زينب يخضع ظاهريا لسيطرة الحكومة لكن قوات الأمن أنهكت بسبب المعارك مع قوات المعارضة في مواقع أخرى وانتهزت الجماعات المسلحة هشاشة الوجود الأمني لتنهب المستشفيات عدة مرات. وأضافت "لا يمكن أن نشتري الأدوية بأنفسنا للأبد."
ولا تبيع الكثير من الصيدليات سوى عقاقير محدودة مثل مسكنات الألم الشائعة والاسعافات الأولية الأساسية. وتسبب الصراع في صعوبة السفر في أنحاء البلاد ما يعوق حصول الصيدليات على ما ينقصها من الأدوية.
يقول سكان إنهم يلجأون إلى السوق السوداء لتوفير احتياجات أكثر تحديدا. وقال أطباء في حلب ودير الزور وضواحي دمشق وجميعها ساحات للقتال إن بعض المرضى اشتروا ما يحتاجونه مثل أسطوانات الأكسجين والتخدير. بحسب رويترز.
وأضافوا أن المرضى اليائسين يمكن أن يشتروا أي شيء من القفازات الجراحية إلى أجهزة الأشعة السينية والغسيل الكلوي بأسعار مرتفعة من السوق السوداء.
والحصول على الرعاية الصحية في وسط دمشق وهي منطقة نجحت قوات الحكومة حتى الآن في حمايتها من زحف المعارضة المسلحة أفضل مقارنة بأحياء يهيمن عليها المقاتلون أو يتنازعون السيطرة عليها مع القوات الحكومية مثل حي السيدة زينب.
وذكر طبيب في مستشفى حكومي في ضاحية المزة بوسط دمشق أن هناك نقصا لكن يمكن التغلب عليه. وقال "هناك نقص في المضادات الحيوية وأدوية الحالات المزمنة." مضيفا أن الأدوية التي تنتهي صلاحيتها يصعب أحيانا إعادة تخزينها. وتابع "بالطبع أشعر بالقلق إزاء الموقف لأنه يصعب التنبؤ به. لا تعرف ما هو النقص الذي ستواجهه من شهر لآخر." وذكر أن المستشفى يغطي بالكاد احتياجاته الشهرية.
واستطرد أن تدهور الموقف أو تحسنه يتوقف على قدرة شركات الأدوية السورية التي تنتج 90 في المئة من احتياجات السوق المحلية من الأدوية والعقاقير على الاستمرار في نشاطها. لكن الأمر لا يبدو مبشرا.
يقول الطبيب إن 70 في المئة من انتاج الأدوية توقف في حلب بعد أن اجتاح المقاتلون المدينة في يوليو تموز ما أدى إلى اندلاع قتال عنيف.
وفي أغسطس قالت منظمة الصحة العالمية أن معظم شركات الأدوية السورية أغلقت أبوابها. وذكر طبيب من حلب أن نقص الامدادات شديد في بعض المستشفيات لدرجة أن الأطباء يضطرون أحيانا لاجراء عمليات جراحية دون توافر المعدات الضرورية. وأضاف "بعض المعدات باهظة الثمن بحيث لا يمكن أن نشتريها مرة أخرى. لا يمكن أن نعثر على بديل بسعر معقول لجهاز الأشعة السينية."