لغة التحالفات ومفرداتها
عبيدلي العبيدلي - كاتب بحريني (سياسي)
«28-ديسمبر-2010»
من أهم النتائج التي تمخض عنها المشروع الإصلاحي هي فتح المجال أمام الحوار السياسي والفكري العلنيين بين مختلف القوى السياسية العاملة في البحرين، الأمر الذي شرع الأبواب على مصراعيها للمجتهدين من مختلف العقائد، والأيدلوجيات، والملل، كي يدلو كل منهم بدلوه في هذا المضمار. ليس هناك أي شك أن ذلك المشروع قد ولد هذه الظاهرة الصحية في جوهرها وفي سياقها العام، بغض النظر عن بعض الشوائب التي علقت بها، وهو أمر متوقع عندما نتحدث عن مجتمع تحكمه الكثير من القضايا المعقدة التي تعود جذورها إلى عمل سياسي يكاد أن يقترب من سن المئة عام.
يكفي ان المشروع الإصلاحي قد انتقلت، بفضله تلك الحوارات، من أنفاقها السرية التي كانت تأسرها داخلها مواد قانون أمن الدولة، إلى فضاء صفحات الصحف والمجلات، بل وحتى الإعلام المسموع والمرئي.
ومن أهم الحوارات التي سادت صفوف القوى المعارضة، وخاصة التيار الوطني الديمقراطي، هي تلك الباحثة، وبصدق، عن الصيغة الأكثر ملائمة لبناء شكل من أشكال التنظيم الجبهوي الذي بوسعه أن يضم في صفوفه القوى الوطنية الديمقراطية، سوية مع حملة هذا الفكر من أفراد، غير منظمين، تمسكوا به بفضل أصولهم الحزبية التاريخية.
والحديث عن هذا النمط التحالفي في العمل السياسي العربي هو حديث ذو شجون، نظراً للحقائق المرة التي خلفتها تجارب الجبهات الوطنية الديمقراطية في دول الأنظمة العسكرية العربية، وخاصة في سوريا والعراق في مراحل السبعينيات من القرن الماضي. ولذلك فليس من المستغرب، مع تعقد الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، بما فيها البحرين، وبروز قوى سياسية جديدة، لعل أكثرها حضورا هي تنظيمات الإسلام السياسي، ان يطرح موضوع التحالفات بشكل جديد، ومن زوايا مختلفة.
وأول قانون يحكم أي عمل من صيغ العمل الجبهوي هو قدرته على إيجاد الحد الأدنى المشترك بين فصائل مختلفة من حيث انتماءاتها الأيدلوجية، وارتباطاتها السياسية، حول هدف محدد أو مجموعة من الأهداف المترابطة القادرة على استقطاب أكبر قاعدة شعبية ممكنة، ضد عدو واحد مشترك.
ولعل من أبرز العمل الجبهوي المشترك الناجحة في التاريخ المعاصر كان تأسيس جبهة التحرير الوطنية لجنوب فيتنام، التي حازت بالإضافة إلى التفاف مختلف القوى العالمية المعادية للإمبريالية الأميركية، على الدعم المطلق من فيتنام الشمالية التي كان يحكمها حينها حزب الشعب الفيتنامي بقيادة هوشي منه، والتي أمنت لثوار الفيتكونغ كل الدعم العسكري واللوجستي الذي كانوا في أمس الحاجة له. وبإمكاننا أن ندرج هنا الكثير من الظواهر التي كانت تؤكد قدرة حزب الشعب الفيتنامي على تكتيل الشعب في شطري فيتنام، تحت راية جبهة وطنية واحدة، لكن يكفينا استعارة حديث الجنرال الفيتنامي جياب في لقاء له مع المؤلف الفرنسي جان لاكتور المعنون «هوشي منه بين الحلم الثوري والبيروقراطية الستالينية»، والذي نقله رحيم العراقي من كتبة موقع «التمدن»، وقال فيه «لقد أراد الرئيس هوشي منه أن أتحدث إليك قبله وكلفني بمهمة أن أكشف لك بوضوح أهدافنا الاستراتيجية. إنها بسيطة وهي أننا نريد الاستقلال وليس الحرب -على عكس بعض حلفائنا-، وإذا استطعنا الحصول على الاستقلال دون الحرب مقابل تنازلات مؤقتة والاعتراف بمصالح جديرة بالاحترام، فإننا سنعرف كيف نكون صبورين ومعتدلين بمواقفنا. إننا لا نبحث عن أي ثأر، إذ إن ثقافتكم غالية علينا ولا نزعم فرض إيديولوجيتنا. لكننا لا نساوم على المدى المتوسط أو الطويل، حول الهدفين الأساسيين المتمثلين بالاستقلال والحرية».
في هذه الكلمات المكثفة لخص جياب وبعمق فهمه للحد الأدنى الذي التف العالم، وليس الفيتناميون وحدهم، حول الفيتكونغ، وقدموا له الدعم الذي يستحقه، الأمر الذي مكن مقاتليه، ومن خلال جبهة الحد الأدنى على الصعيدين المحلي والعالمي، من دحر الإمبريالية الأميركية، وهي في عنفوان جبروتها.
من يتمعن في حديث جياب، يكتشف وببساطة قدرته الفائقة على التمييز بين الأهداف المرحلية، وتلك الطويلة المدى، مما يدل على فهم عميق لمتطلبات العمل الجبهوي القائم على تحقيق أهداف الحد الأدنى، دون التفريط بتلك الأهداف الاستراتيجية.
نعود للبحرين، باحثين عن الحد الأدنى، في العمل السياسي الذي بوسعه تحقيق بناء أوسع جبهة معارضة وطنية قادرة على تكتيل أعلى نسبة من القوى الراغبة في إحداث النقلة التي يحتاجها المجتمع البحريني، من حالة «اللا مواطنة» التي أجبر على القبول بسلوكها، إلى المجتمع المدني المعاصر الذي يمد سكانه بعناصر الانتماء الذي يعبرون من خلاله عن أرقى أشكال المواطنة، رغم الاختلافات السياسية والعرقية والطائفية التي تصنف انتماءاتهم.
يتحول الوطن، بفضل التحديد العلمي الصحيح لأهداف تعبر عن الحد الأدنى، إلى رافعة تاريخية تنتشل المواطن من حالة التمزق التي يعاني منها، إلى مستوى التوحد الذي نبحث عنه جميعنا. والوصول إلى هذا الهدف، يحتاج، فيما يحتاج إليه، إلى تلك الشخصية الكاريزمية، من مستوى هوشي منه، ومانديلا، وجياب، القادرة على مخاطبة المواطن وإقناعه بجدوى وصحة تحديد ذلك «الحد الأدنى» أولا، وإلى كوكبة من التنظيمات السياسية الواعية القادرة على تناسي خلافاتها الثانوية، ورص صفوفها تحت راية ذلك الحد الأدنى الذي نتحدث عنه.
ولغة التحالفات هذه والمفردات التي تترجمها من مجرد مفاهيم نظرية إلى برامج عمل وطنية، لا تعني بأي شكل من الأشكال ذوبان التنظيمات في إطار واحد، أو ذوبان هويتها الإيديولوجية وفكرها السياسي، والتضحية بهما من أجل ذلك الهدف الذي يحتوي على عناصر الحد الأدنى. إذ لابد، ومن أجل إنجاح العمل الجبهوي، أن يحتفظ كل تنظيم أو فئة سياسية بفكره وهويتها، على التوالي، لكن دون أن يتعارض ذلك الانتماء، مع أهداف وبرامج تحقيق الحد الأدنى.
ومن الضرورة بمكان أن تكون لغة التحالفات غير معقدة، ومفرداتها مفهومة، وكلاهما قابلتان لتحقيق الوحدة الوطنية ومحاصرة العدو، داخلياً كان ذلك العدو، أم خارجياً، وبالطرق السلمية، أو بالأساليب العنيفة. فلكل مرحلة أهدافها، ولكل حد أدنى أساليبه ووسائله.
وما لم تتفق القوى السياسية على الحد الأدنى، فليس هناك مناص من تفشي التشرذم في صفوفها، وسهولة فتك السلطة بها، بغض النظر عن حسن نوايا الأولى، أو مدى قوة الثانية.
الوسط - 28 ديسمبر 2010
عبيدلي العبيدلي - كاتب بحريني (سياسي)
«28-ديسمبر-2010»
من أهم النتائج التي تمخض عنها المشروع الإصلاحي هي فتح المجال أمام الحوار السياسي والفكري العلنيين بين مختلف القوى السياسية العاملة في البحرين، الأمر الذي شرع الأبواب على مصراعيها للمجتهدين من مختلف العقائد، والأيدلوجيات، والملل، كي يدلو كل منهم بدلوه في هذا المضمار. ليس هناك أي شك أن ذلك المشروع قد ولد هذه الظاهرة الصحية في جوهرها وفي سياقها العام، بغض النظر عن بعض الشوائب التي علقت بها، وهو أمر متوقع عندما نتحدث عن مجتمع تحكمه الكثير من القضايا المعقدة التي تعود جذورها إلى عمل سياسي يكاد أن يقترب من سن المئة عام.
يكفي ان المشروع الإصلاحي قد انتقلت، بفضله تلك الحوارات، من أنفاقها السرية التي كانت تأسرها داخلها مواد قانون أمن الدولة، إلى فضاء صفحات الصحف والمجلات، بل وحتى الإعلام المسموع والمرئي.
ومن أهم الحوارات التي سادت صفوف القوى المعارضة، وخاصة التيار الوطني الديمقراطي، هي تلك الباحثة، وبصدق، عن الصيغة الأكثر ملائمة لبناء شكل من أشكال التنظيم الجبهوي الذي بوسعه أن يضم في صفوفه القوى الوطنية الديمقراطية، سوية مع حملة هذا الفكر من أفراد، غير منظمين، تمسكوا به بفضل أصولهم الحزبية التاريخية.
والحديث عن هذا النمط التحالفي في العمل السياسي العربي هو حديث ذو شجون، نظراً للحقائق المرة التي خلفتها تجارب الجبهات الوطنية الديمقراطية في دول الأنظمة العسكرية العربية، وخاصة في سوريا والعراق في مراحل السبعينيات من القرن الماضي. ولذلك فليس من المستغرب، مع تعقد الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، بما فيها البحرين، وبروز قوى سياسية جديدة، لعل أكثرها حضورا هي تنظيمات الإسلام السياسي، ان يطرح موضوع التحالفات بشكل جديد، ومن زوايا مختلفة.
وأول قانون يحكم أي عمل من صيغ العمل الجبهوي هو قدرته على إيجاد الحد الأدنى المشترك بين فصائل مختلفة من حيث انتماءاتها الأيدلوجية، وارتباطاتها السياسية، حول هدف محدد أو مجموعة من الأهداف المترابطة القادرة على استقطاب أكبر قاعدة شعبية ممكنة، ضد عدو واحد مشترك.
ولعل من أبرز العمل الجبهوي المشترك الناجحة في التاريخ المعاصر كان تأسيس جبهة التحرير الوطنية لجنوب فيتنام، التي حازت بالإضافة إلى التفاف مختلف القوى العالمية المعادية للإمبريالية الأميركية، على الدعم المطلق من فيتنام الشمالية التي كان يحكمها حينها حزب الشعب الفيتنامي بقيادة هوشي منه، والتي أمنت لثوار الفيتكونغ كل الدعم العسكري واللوجستي الذي كانوا في أمس الحاجة له. وبإمكاننا أن ندرج هنا الكثير من الظواهر التي كانت تؤكد قدرة حزب الشعب الفيتنامي على تكتيل الشعب في شطري فيتنام، تحت راية جبهة وطنية واحدة، لكن يكفينا استعارة حديث الجنرال الفيتنامي جياب في لقاء له مع المؤلف الفرنسي جان لاكتور المعنون «هوشي منه بين الحلم الثوري والبيروقراطية الستالينية»، والذي نقله رحيم العراقي من كتبة موقع «التمدن»، وقال فيه «لقد أراد الرئيس هوشي منه أن أتحدث إليك قبله وكلفني بمهمة أن أكشف لك بوضوح أهدافنا الاستراتيجية. إنها بسيطة وهي أننا نريد الاستقلال وليس الحرب -على عكس بعض حلفائنا-، وإذا استطعنا الحصول على الاستقلال دون الحرب مقابل تنازلات مؤقتة والاعتراف بمصالح جديرة بالاحترام، فإننا سنعرف كيف نكون صبورين ومعتدلين بمواقفنا. إننا لا نبحث عن أي ثأر، إذ إن ثقافتكم غالية علينا ولا نزعم فرض إيديولوجيتنا. لكننا لا نساوم على المدى المتوسط أو الطويل، حول الهدفين الأساسيين المتمثلين بالاستقلال والحرية».
في هذه الكلمات المكثفة لخص جياب وبعمق فهمه للحد الأدنى الذي التف العالم، وليس الفيتناميون وحدهم، حول الفيتكونغ، وقدموا له الدعم الذي يستحقه، الأمر الذي مكن مقاتليه، ومن خلال جبهة الحد الأدنى على الصعيدين المحلي والعالمي، من دحر الإمبريالية الأميركية، وهي في عنفوان جبروتها.
من يتمعن في حديث جياب، يكتشف وببساطة قدرته الفائقة على التمييز بين الأهداف المرحلية، وتلك الطويلة المدى، مما يدل على فهم عميق لمتطلبات العمل الجبهوي القائم على تحقيق أهداف الحد الأدنى، دون التفريط بتلك الأهداف الاستراتيجية.
نعود للبحرين، باحثين عن الحد الأدنى، في العمل السياسي الذي بوسعه تحقيق بناء أوسع جبهة معارضة وطنية قادرة على تكتيل أعلى نسبة من القوى الراغبة في إحداث النقلة التي يحتاجها المجتمع البحريني، من حالة «اللا مواطنة» التي أجبر على القبول بسلوكها، إلى المجتمع المدني المعاصر الذي يمد سكانه بعناصر الانتماء الذي يعبرون من خلاله عن أرقى أشكال المواطنة، رغم الاختلافات السياسية والعرقية والطائفية التي تصنف انتماءاتهم.
يتحول الوطن، بفضل التحديد العلمي الصحيح لأهداف تعبر عن الحد الأدنى، إلى رافعة تاريخية تنتشل المواطن من حالة التمزق التي يعاني منها، إلى مستوى التوحد الذي نبحث عنه جميعنا. والوصول إلى هذا الهدف، يحتاج، فيما يحتاج إليه، إلى تلك الشخصية الكاريزمية، من مستوى هوشي منه، ومانديلا، وجياب، القادرة على مخاطبة المواطن وإقناعه بجدوى وصحة تحديد ذلك «الحد الأدنى» أولا، وإلى كوكبة من التنظيمات السياسية الواعية القادرة على تناسي خلافاتها الثانوية، ورص صفوفها تحت راية ذلك الحد الأدنى الذي نتحدث عنه.
ولغة التحالفات هذه والمفردات التي تترجمها من مجرد مفاهيم نظرية إلى برامج عمل وطنية، لا تعني بأي شكل من الأشكال ذوبان التنظيمات في إطار واحد، أو ذوبان هويتها الإيديولوجية وفكرها السياسي، والتضحية بهما من أجل ذلك الهدف الذي يحتوي على عناصر الحد الأدنى. إذ لابد، ومن أجل إنجاح العمل الجبهوي، أن يحتفظ كل تنظيم أو فئة سياسية بفكره وهويتها، على التوالي، لكن دون أن يتعارض ذلك الانتماء، مع أهداف وبرامج تحقيق الحد الأدنى.
ومن الضرورة بمكان أن تكون لغة التحالفات غير معقدة، ومفرداتها مفهومة، وكلاهما قابلتان لتحقيق الوحدة الوطنية ومحاصرة العدو، داخلياً كان ذلك العدو، أم خارجياً، وبالطرق السلمية، أو بالأساليب العنيفة. فلكل مرحلة أهدافها، ولكل حد أدنى أساليبه ووسائله.
وما لم تتفق القوى السياسية على الحد الأدنى، فليس هناك مناص من تفشي التشرذم في صفوفها، وسهولة فتك السلطة بها، بغض النظر عن حسن نوايا الأولى، أو مدى قوة الثانية.
الوسط - 28 ديسمبر 2010