أعمدة
الشرق الأوسط.. أو «سرير بروكست»
مروان العياصرة
مروان العياصرة
للشرق الأوسط أوجاعه الاقتصادية، وأمراضه السياسية المزمنة، وأوهامه الثقافية إذ يتوهم انه يعيش ثقافة المعاصرة والحداثة وما بعد الحداثة، والحقيقة انه يعيش حالة من الارتباك المفاهيمي واستغلاق القيم، وفوق ذلك التوترات المتصاعدة، والاستقطابات الحادة لجهة لا تخدم مصالحه ولا تحقق مشروعه المهزوم دوما، ولا تنهض بأية أهداف أو غايات تغييرية وإصلاحية، ليبقى رهين دوائر الصراعات ومحاور الشر المصنوعة سلفاً من قبل الغرب (البروكستي)، الذي يمثله السيد بروكست (السيد الأسطوري الخارج على القانون)، الرافض للتعاليم، والمستغرق في شهوة الاختطاف والقتل وقطع الطريق، الذي كان يتقن فن تمطيط أو بتر جسد ضحاياه ليأتي على مقاس سريره.
أصبح الشرق الأوسط كسرير بروكست، بأزماته وأوضاعه السياسية المأزومة، منتجات غربية لأزمات على مقاس المصالح، وحروب حسب مستوى الأطماع، وصراعات تبقي الباب مواربا لدخول مزيد من التشظي والانقسام والتجزئ، وبؤر ساخنة مهيأة لإنضاج أي وجبة سياسية أو اقتصادية، كل ذلك من شأنه أن يعطي طاقة قصوى لتزويد مشغلات الصراع الأطول عالمياً في العصر الحديث.
لقد اعتادت المنطقة كلها على هذه الأزمات والصراعات والأوجاع، وهي مطالبة أيضا أن تعتاد على كتم غيضها، ولجم صراخها، وكبح جماح ذاك النزق الذي ينز من أزقتها وحاراتها، ومن جراح أرواح فقرائها.
مطالبه أن ترى دمها في الشوارع وتقول: هذا من اجل بعض اختبارات فصيلة الدم، والأمراض الوراثية.
مطالبه أن تواجه ما تواجه من أزمات تحبس الأنفاس، وصراعات وفتن، وأن تبقى على قيد الحياة من غير أن تشكو، بل مطالبة أن تعيش بسلام مع الآخر، إن جاءها غازياً ومحارباً، وثمة سؤال: ترى.. هل كان يطلب بروكست من ضحاياه أن يكتموا أوجاعهم، وهو يمطط أجسادهم أو يبتر أقدامهم ليكونوا على مقاس سريره، ربما لا، لكن أميركا تطلب من هذا الشرق الأوسط، أن يكتم ألمه، وأن يعتاد على أوجاعه، والمضحك المبكي أن تبقي ضحاياها مبتسمين، وهم يعيشون موتهم باستمرار، فقرا وذلا واستلابا.
لا نبالغ بذلك، إذ تقرر أميركا أن على الشرق الأوسط أن يحيا في إطار من التعايش السلمي، كمشروع معنوي يحتاج لأن نتخلى عن إحساسنا تجاه كل ما يجري لنا، وإلا فإلى أي مكان يمكن لنا أن نذهب بكل دوائر الحرب والموت المجاني، والدم المسكوت عنه.
تعايش سلمي، ذاك المفهوم الذي دعا إليه الاتحاد السوفيتي لتحقيق تفاهم مشترك بين المعسكرين الشرقي والغربي، والذي أخرجته أميركا من معناه ومن مضمونه، وجعلته صورة بلا إطار، تستطيع قراءته على كل الأوجه وتفسيره حسب احتمالات مصالحها، تعايش سلمي في مجال الهويات الثقافية، وفي مجال السياسات الخارجية والاقتصادات المفتوحة، وغير ذلك، فهل نستطيع نحن الشرق أوسطيون أن نمارس دوراً حقيقياً في هذا التعايش في ظل استلابنا الثقافي، والاقتصادي والسياسي، إنه بالتأكيد تعايش سلمي يجعلنا ضحية على مقاس سرير السيد بروكست الجديد.
قدرنا نحن الشرق أوسطيون أن نبقى رهن نمطي التفكير الأميركي، بين روزفلت الذي لا يرى مصلحة لأميركا إلا أن تكون القوة العالمية الضاربة، وأنه لا توازن عالمي من دونها، وهي اليوم كذلك، توزع هذه التوازنات، تطبيقاً لذات مبدأ روزفلت في أن من واجبها اللجوء إلى القوة من أجل تحقيق الانتصار لعدالتها، كما أنه لا فاعلية لقانون أو مجتمع دولي أو أممي، إذا ما كانت الأمة عاجزة عن حماية نفسها، وإدارة شؤونها بفكرها هي وقوتها هي وحدها أيضا.. وبين ويلسون، الذي خلصت أفكاره إلى إنتاج عصبة الأمم المتحدة، معتمدا على الأخلاقيات والمبادئ بدلا من توازن القوى، وعلى منظومة قانونية دولية بدلاً من «العسكرتارية».
أميركا الراهنة، جربت خلط الأوراق بين روزفلت وويلسون، وعملت على انجاز مشروع معاصر يجمع بين العسكرتارية والنظم الأخلاقية والقانونية العالمية، معتمدة على تزييف الوعي بالفضيلة والقيم الأخلاقية والمبادئ الدولية وتجريدها من معناها القيمي وإلباسها معنى جديداً لتكون قادرة على استيعاب استخدام القوة العسكرتارية، لأن - حسب هنري كيسنجر في دبلوماسيته: «القصاصات الورقية التي تحمل سلاماً خيالياً ووعودا يستحيل تحقيقها بدون قوة فاعلة هو موقف بشع، والفضيلة التافهة التي لا تدعمها أية قوة هي أيضا فضيلة فاسدة، أي أكثر شؤما من القوة المنفصلة عن الفضيلة».
أليس التعايش السلمي فضيلة وقيمة إنسانية مشتركة، والسلام المنشود للشرق الأوسط، أليس قيمة وفضيلة، وكلها تحتاج لقوة، تحميها وتحفظها وتعزز أسسها وترسخ منطلقاتها، وحسب أفكار روزفلت فإن الأمة العاجزة عن حماية مصالحها أحرى أن تكون غير قادرة على حماية فضائلها من التعايش السلمي والسلام والحوار المشترك، وغير ذلك، إنها إذاً ستتحول إلى طريدة تسقط في مكائد نفاق الفضائل الغربية والعسكرتارية، ونقول نفاق الفضيلة، لأن ثمة من اعتبر الفضيلة الأميركية التي تغزو العالم بها ليست سوى نفاق ينطوي على مصالح خاصة، لا علاقة لها بالقيم الإنسانية والمبادئ العالمية التي نادى بها ويلسون.
الشرق الأوسط.. أو «سرير بروكست»
مروان العياصرة
مروان العياصرة
للشرق الأوسط أوجاعه الاقتصادية، وأمراضه السياسية المزمنة، وأوهامه الثقافية إذ يتوهم انه يعيش ثقافة المعاصرة والحداثة وما بعد الحداثة، والحقيقة انه يعيش حالة من الارتباك المفاهيمي واستغلاق القيم، وفوق ذلك التوترات المتصاعدة، والاستقطابات الحادة لجهة لا تخدم مصالحه ولا تحقق مشروعه المهزوم دوما، ولا تنهض بأية أهداف أو غايات تغييرية وإصلاحية، ليبقى رهين دوائر الصراعات ومحاور الشر المصنوعة سلفاً من قبل الغرب (البروكستي)، الذي يمثله السيد بروكست (السيد الأسطوري الخارج على القانون)، الرافض للتعاليم، والمستغرق في شهوة الاختطاف والقتل وقطع الطريق، الذي كان يتقن فن تمطيط أو بتر جسد ضحاياه ليأتي على مقاس سريره.
أصبح الشرق الأوسط كسرير بروكست، بأزماته وأوضاعه السياسية المأزومة، منتجات غربية لأزمات على مقاس المصالح، وحروب حسب مستوى الأطماع، وصراعات تبقي الباب مواربا لدخول مزيد من التشظي والانقسام والتجزئ، وبؤر ساخنة مهيأة لإنضاج أي وجبة سياسية أو اقتصادية، كل ذلك من شأنه أن يعطي طاقة قصوى لتزويد مشغلات الصراع الأطول عالمياً في العصر الحديث.
لقد اعتادت المنطقة كلها على هذه الأزمات والصراعات والأوجاع، وهي مطالبة أيضا أن تعتاد على كتم غيضها، ولجم صراخها، وكبح جماح ذاك النزق الذي ينز من أزقتها وحاراتها، ومن جراح أرواح فقرائها.
مطالبه أن ترى دمها في الشوارع وتقول: هذا من اجل بعض اختبارات فصيلة الدم، والأمراض الوراثية.
مطالبه أن تواجه ما تواجه من أزمات تحبس الأنفاس، وصراعات وفتن، وأن تبقى على قيد الحياة من غير أن تشكو، بل مطالبة أن تعيش بسلام مع الآخر، إن جاءها غازياً ومحارباً، وثمة سؤال: ترى.. هل كان يطلب بروكست من ضحاياه أن يكتموا أوجاعهم، وهو يمطط أجسادهم أو يبتر أقدامهم ليكونوا على مقاس سريره، ربما لا، لكن أميركا تطلب من هذا الشرق الأوسط، أن يكتم ألمه، وأن يعتاد على أوجاعه، والمضحك المبكي أن تبقي ضحاياها مبتسمين، وهم يعيشون موتهم باستمرار، فقرا وذلا واستلابا.
لا نبالغ بذلك، إذ تقرر أميركا أن على الشرق الأوسط أن يحيا في إطار من التعايش السلمي، كمشروع معنوي يحتاج لأن نتخلى عن إحساسنا تجاه كل ما يجري لنا، وإلا فإلى أي مكان يمكن لنا أن نذهب بكل دوائر الحرب والموت المجاني، والدم المسكوت عنه.
تعايش سلمي، ذاك المفهوم الذي دعا إليه الاتحاد السوفيتي لتحقيق تفاهم مشترك بين المعسكرين الشرقي والغربي، والذي أخرجته أميركا من معناه ومن مضمونه، وجعلته صورة بلا إطار، تستطيع قراءته على كل الأوجه وتفسيره حسب احتمالات مصالحها، تعايش سلمي في مجال الهويات الثقافية، وفي مجال السياسات الخارجية والاقتصادات المفتوحة، وغير ذلك، فهل نستطيع نحن الشرق أوسطيون أن نمارس دوراً حقيقياً في هذا التعايش في ظل استلابنا الثقافي، والاقتصادي والسياسي، إنه بالتأكيد تعايش سلمي يجعلنا ضحية على مقاس سرير السيد بروكست الجديد.
قدرنا نحن الشرق أوسطيون أن نبقى رهن نمطي التفكير الأميركي، بين روزفلت الذي لا يرى مصلحة لأميركا إلا أن تكون القوة العالمية الضاربة، وأنه لا توازن عالمي من دونها، وهي اليوم كذلك، توزع هذه التوازنات، تطبيقاً لذات مبدأ روزفلت في أن من واجبها اللجوء إلى القوة من أجل تحقيق الانتصار لعدالتها، كما أنه لا فاعلية لقانون أو مجتمع دولي أو أممي، إذا ما كانت الأمة عاجزة عن حماية نفسها، وإدارة شؤونها بفكرها هي وقوتها هي وحدها أيضا.. وبين ويلسون، الذي خلصت أفكاره إلى إنتاج عصبة الأمم المتحدة، معتمدا على الأخلاقيات والمبادئ بدلا من توازن القوى، وعلى منظومة قانونية دولية بدلاً من «العسكرتارية».
أميركا الراهنة، جربت خلط الأوراق بين روزفلت وويلسون، وعملت على انجاز مشروع معاصر يجمع بين العسكرتارية والنظم الأخلاقية والقانونية العالمية، معتمدة على تزييف الوعي بالفضيلة والقيم الأخلاقية والمبادئ الدولية وتجريدها من معناها القيمي وإلباسها معنى جديداً لتكون قادرة على استيعاب استخدام القوة العسكرتارية، لأن - حسب هنري كيسنجر في دبلوماسيته: «القصاصات الورقية التي تحمل سلاماً خيالياً ووعودا يستحيل تحقيقها بدون قوة فاعلة هو موقف بشع، والفضيلة التافهة التي لا تدعمها أية قوة هي أيضا فضيلة فاسدة، أي أكثر شؤما من القوة المنفصلة عن الفضيلة».
أليس التعايش السلمي فضيلة وقيمة إنسانية مشتركة، والسلام المنشود للشرق الأوسط، أليس قيمة وفضيلة، وكلها تحتاج لقوة، تحميها وتحفظها وتعزز أسسها وترسخ منطلقاتها، وحسب أفكار روزفلت فإن الأمة العاجزة عن حماية مصالحها أحرى أن تكون غير قادرة على حماية فضائلها من التعايش السلمي والسلام والحوار المشترك، وغير ذلك، إنها إذاً ستتحول إلى طريدة تسقط في مكائد نفاق الفضائل الغربية والعسكرتارية، ونقول نفاق الفضيلة، لأن ثمة من اعتبر الفضيلة الأميركية التي تغزو العالم بها ليست سوى نفاق ينطوي على مصالح خاصة، لا علاقة لها بالقيم الإنسانية والمبادئ العالمية التي نادى بها ويلسون.