عقيل سوار
14 فبراير 2010
من كتاب المطالعة الخمسيني للمرحلة التحضيرية؛ يحضر فيما بقي لي من ذاكرة تحفظ درساً من أمتع دروس المطالعة التي حركت مخيلاتنا الصغيرة وعنوانه ''القرود تحب التقليد''.. مفاده أن بائع طرابيش استظل بشجرة عليها قرود، وحين غفا في قيلولة سريعة نزلت القرود بعبثية جميلة لتسرق طرابيشه، أي مصدر رزقه، لكنه بفطرة ''البزنس'' التي جعلت منه ''بياع / شراي'' صعد الشجرة على عجل وراح تعويلا على ما يعرف من حب القرود للتقليد يلقي بقبعته الخاصة فقلدته القرود، وحين رأى النتيجة تمادت فيه فطرة ''البزنس'' فبدأ يقطف من ثمار شجرة جوز الهند التي يعتليها ويلقي به بها أرضاً، فقلدته القرود ليصبح بعد هذا ثرياً الخ..!! هذا أقصى ما تعينني ذاكرتي الهرمة على تذكره بهامش خطأ معقول، لكني وجدت فيه ما يكفي لإطلاق عنان خيالي، لتدوين السيرة الذاتية للقرد الساكن في وعي مجتمعنا -لا أهانه الله- وكيف أن أول إساءة نحقر بها أنفسنا ونوجهها للقرد، قولنا أن ''السبال في عين أمه غزال''، فقط لأن السجع يلائم، مع أنه لا مجال للمقارنة بين الجمال الداخلي للقرد بصفته ابن عمومتنا، وأقرب مخلوقات الله لنا ذكاءً وفطرة وشكلا؛ وبين الغزالة التي لا أثر فيها لغير عيون ضاحكة مثل عيون ليلى علوي، وأطراف راجفة كأطراف سهير زكي، ثم عرجت على المكانة الأخلاقية للقرد في لغتتنا اليومية الدارجة فالتقيت بتعبيرات مثل وجه ''الكرد والمكرود''، أي وجه النحس والمنحوس، وصولاً لتسفيه شديد القسوة قائم على دكة دينية مزعومة قوامها خرافة تقول أن أصل القرد امرأة سيئة السمعة مسحت مؤخرة طفلها بخبز من نعمة الله فمسخ الله نساء تلك القرية ورجالها لما نعرف من مخلوقات لعوبة طروبة!. بطبيعة الحال لا أساس من الصحة التقريرية لكل ما لحق بالقرد من توبيخ على أيدينا، كما لا أساس تقريري من الصحة أيضاً وأبداً لأي زعم سأدلي به عن أن الله قد انتقم منا إكراماً للقرد فمسخنا وجعلنا شعباً مكروداً!.. مع أن شواهد نحسنا كثيرة وجديرة أن تصيبنا بمرض الوسواس، فنحن مثل القرود نؤمن بالتقليد ونتزاحم على الأسماء وعلى الماركات؛ كأن الكون خلا من اسمين وماركتين، فعندنا جمعية ''عمل'' وجمعية ''منبر'' وعندنا بين كل برادة وبرادة.. برادة ثالثة، وعندنا بين كل مسجد ومسجد مسجدين، بل أننا جعلنا التقليد جزء من معتقدنا وعبادتنا نعول عليه في دخول الجنة ونتقي به النار، كما أن النحس (الكرد) يطاردنا مطاردة إعجازية؛ فالبحرين بأعز ما ملكت وهي مياه وخضرة وبحر قد تلاشت خلال أربعين سنة فقط، وأصبحت بحرين قاحطة قاحلة على الصعيد البيئي، وهي في طور قحط إنساني وحضاري يشي بمصير كمصير أولاد عمنا القردة. إن أكثر ما يلفتني في هذه السيرة الافتراضية هو ملاحظة المفكر الفرنسي غوستاف لوبون؛ مؤسس وصاحب كتاب سيكولوجيا الجماهير، من أن القرود اعتادت محاكات الفلاحين في أدغال أفريقيا عندما يبنون أكواخهم، وأنها قد تتقن بناء الأكواخ بالتقليد، لكن عندما يحل المساء فإن الفلاح الأفريقي البدائي ينام داخل كوخ أما القرود فإنها تنام منهكة فوق تلك الأكواخ!.
صحيفة الو طن البحرينيه
14 فبراير 2010
من كتاب المطالعة الخمسيني للمرحلة التحضيرية؛ يحضر فيما بقي لي من ذاكرة تحفظ درساً من أمتع دروس المطالعة التي حركت مخيلاتنا الصغيرة وعنوانه ''القرود تحب التقليد''.. مفاده أن بائع طرابيش استظل بشجرة عليها قرود، وحين غفا في قيلولة سريعة نزلت القرود بعبثية جميلة لتسرق طرابيشه، أي مصدر رزقه، لكنه بفطرة ''البزنس'' التي جعلت منه ''بياع / شراي'' صعد الشجرة على عجل وراح تعويلا على ما يعرف من حب القرود للتقليد يلقي بقبعته الخاصة فقلدته القرود، وحين رأى النتيجة تمادت فيه فطرة ''البزنس'' فبدأ يقطف من ثمار شجرة جوز الهند التي يعتليها ويلقي به بها أرضاً، فقلدته القرود ليصبح بعد هذا ثرياً الخ..!! هذا أقصى ما تعينني ذاكرتي الهرمة على تذكره بهامش خطأ معقول، لكني وجدت فيه ما يكفي لإطلاق عنان خيالي، لتدوين السيرة الذاتية للقرد الساكن في وعي مجتمعنا -لا أهانه الله- وكيف أن أول إساءة نحقر بها أنفسنا ونوجهها للقرد، قولنا أن ''السبال في عين أمه غزال''، فقط لأن السجع يلائم، مع أنه لا مجال للمقارنة بين الجمال الداخلي للقرد بصفته ابن عمومتنا، وأقرب مخلوقات الله لنا ذكاءً وفطرة وشكلا؛ وبين الغزالة التي لا أثر فيها لغير عيون ضاحكة مثل عيون ليلى علوي، وأطراف راجفة كأطراف سهير زكي، ثم عرجت على المكانة الأخلاقية للقرد في لغتتنا اليومية الدارجة فالتقيت بتعبيرات مثل وجه ''الكرد والمكرود''، أي وجه النحس والمنحوس، وصولاً لتسفيه شديد القسوة قائم على دكة دينية مزعومة قوامها خرافة تقول أن أصل القرد امرأة سيئة السمعة مسحت مؤخرة طفلها بخبز من نعمة الله فمسخ الله نساء تلك القرية ورجالها لما نعرف من مخلوقات لعوبة طروبة!. بطبيعة الحال لا أساس من الصحة التقريرية لكل ما لحق بالقرد من توبيخ على أيدينا، كما لا أساس تقريري من الصحة أيضاً وأبداً لأي زعم سأدلي به عن أن الله قد انتقم منا إكراماً للقرد فمسخنا وجعلنا شعباً مكروداً!.. مع أن شواهد نحسنا كثيرة وجديرة أن تصيبنا بمرض الوسواس، فنحن مثل القرود نؤمن بالتقليد ونتزاحم على الأسماء وعلى الماركات؛ كأن الكون خلا من اسمين وماركتين، فعندنا جمعية ''عمل'' وجمعية ''منبر'' وعندنا بين كل برادة وبرادة.. برادة ثالثة، وعندنا بين كل مسجد ومسجد مسجدين، بل أننا جعلنا التقليد جزء من معتقدنا وعبادتنا نعول عليه في دخول الجنة ونتقي به النار، كما أن النحس (الكرد) يطاردنا مطاردة إعجازية؛ فالبحرين بأعز ما ملكت وهي مياه وخضرة وبحر قد تلاشت خلال أربعين سنة فقط، وأصبحت بحرين قاحطة قاحلة على الصعيد البيئي، وهي في طور قحط إنساني وحضاري يشي بمصير كمصير أولاد عمنا القردة. إن أكثر ما يلفتني في هذه السيرة الافتراضية هو ملاحظة المفكر الفرنسي غوستاف لوبون؛ مؤسس وصاحب كتاب سيكولوجيا الجماهير، من أن القرود اعتادت محاكات الفلاحين في أدغال أفريقيا عندما يبنون أكواخهم، وأنها قد تتقن بناء الأكواخ بالتقليد، لكن عندما يحل المساء فإن الفلاح الأفريقي البدائي ينام داخل كوخ أما القرود فإنها تنام منهكة فوق تلك الأكواخ!.
صحيفة الو طن البحرينيه