جعفر عبد الكريم صالح

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

حركة جعفر الخابوري الا سلا ميه


    اية الله السيد صادق الشيرازي

    جعفر الخابوري
    جعفر الخابوري
    مراقب عام
    مراقب عام


    عدد المساهمات : 475
    تاريخ التسجيل : 11/10/2009
    العمر : 54

    اية الله السيد صادق الشيرازي Empty اية الله السيد صادق الشيرازي

    مُساهمة  جعفر الخابوري الثلاثاء نوفمبر 03, 2009 1:35 pm

    ملاحظات حول المنهج

    منذ أن ابتُلي العالم الإسلامي بحكومات تطبّق القانون الغربي، وتبني الدولة على أساس النظريات الاستعمارية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ظهر كثير من الباحثين يروجون للأفكار الاستعمارية، ويدّعون أنه لا يمكن بناء الدولة الحديثة إلا على أساس تلك النظريات، فأعلنوا، وبلا تحفّظ، انحيازهم إلى النظريات الاستعمارية زاعمين أنها هي النظريات الأفضل والتي على أساس الاقتراب منها، أو البعد عنها، تتحدد إمكانيات أي نظام أو سلطة سياسية في القيام بوظائفها التي يتوقّعها منها الاجتماع.

    فإذا ما ظهر مفكّر حباه الله بالذكاء والإخلاص هاجمه أولئك الكتاب، فما بالك إذا كان هناك فقيه يستطيع أن يبني بفكره ورؤاه طريقاً يقود الفرد والاجتماع كله، إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة؟! طبعاً انهم سيحاربونه، وكأن أي تقدّم تحققه الأمة الإسلامية يضرّ بمصالح هؤلاء، وهذا انحياز غالباً ما تحكمه عاطفة معينة، وانسياق وراء مسلّمات أثبت الواقع بطلانها.

    فتخرج مواقفهم على شروط البحث العلمي، متناقضة مع الواقعية التي لا يمكن من غيرها إنجاز مشروع دراسي يتعلق بالتفكير السياسي وتقييم النظريات غير الغربية التي نشأت في أرجاء العالم، فليس الغرب هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه العلوم وتعود إليه، والباحث إن لم ينتبه لذلك وقع في خلل منهجي وخاصة إذا لم يستطع التخلص من تلك المسلّمات المسبقة.

    إضافة إلى أن التفكير السياسي، خارج إطار الدول الغربية، ليس من الضروري أن يكون متأثراً بالنظريات الغربية، فتاريخنا الإسلامي حافل بالتنظير السياسي، كما أن المعاصرين من مفكري الإسلام، ومن أبرزهم الإمام الشيرازي، قدموا فكراً سياسياً مستنيراً بحيث تأثر به علماء الغرب وأسسوا نظرياتهم على أساسه، مع ترقيعها برؤيتهم المادية، فظهرت وكأنها نقيض لذاك.

    وتبرز حدة التناقض بين النظريات السياسية الغربية، والفكر السياسي المنبثق من مقولات إسلامية، بشكل كبير، في اختلاف التوجهات والأهداف والأساليب بين النمطين من التفكير والأداء، ضمن ما يعتبره الإسلام واجباً لا تراجع عنه، والذي ينبغي أن يحظى بموافقة ضمنية أو صريحة لأفراد المجتمع، على أن ذلك الرضا العام، ليس مطلوباً، بحد ذاته كهدف نهائي إلا بالتلازم مع طاعة الله وقيادة تتفهّم قوانين الإسلام وشروط التغيير، وطبيعة العلاقات داخل المجتمع، ثم المتغيرات النفسية والاجتماعية، لتستفيد من كل ذلك في بناء نظريتها السياسية الخاصة بها، بغض النظر عن توافقها مع هذا الرأي أو ذاك، أو مع الرأي العام في البلد، في المرحلة الأولى، حين لا يكون الوعي قد وصل إلى المرحلة التي تؤهل الناس إلى استيعاب مقولات ذلك الفكر، بفعل حملات التضليل التي يمارسها الحكام الدكتاتوريون وأعداء الإسلام في الداخل والخارج.

    على أن يكون ذلك في إطار مرحلة ما، لا على أساس قانون شامل يهمل الرأي العام، لأن هذا القانون لا يمكن أن يخدم الإسلام، على الإطلاق في المراحل المتلاحقة لبناء دولة الإسلام وذلك باعتبار أن الدولة الإسلامية، في أساسها، متوجهة إلى الرأي العام، بهدف تطويره وإدماجه في عمليات التغيير المتواصل، فهدف الإسلام سعادة المجتمع في الدنيا والفوز في الآخرة.

    وهذا لا يعني أن الاجتماع الإسلامي يجب أن ينقطع عن النظريات السياسية الغربية، بل على العكس من ذلك، فالواقع يثبت ازدياد ضرورة الاستفادة مما وصلت إليه العلوم في مسيرة تطورها، ومنها علم السياسة وما أضافه من إضافات جد خطيرة، فقد أنتج الغرب نظريات الديمقراطية والأحزاب وتداول السلطة وتحكّم الشركات والرساميل والاشتراكية، وغيرها.. مما يفرض الإطّلاع عليها، وربما الإفادة منها بما يُغني الواقع الإسلامي، خاصة إذا كان منسجماً مع الأصالة الإسلامية، بل أنّ كثيراً من أسس تلك الإنجازات موجودة في الإسلام وبشكل أرقى وأفضل.

    إلا أن ما يجب أن نهتم به، هو اختيار أفضل المناهج والأساليب التي تنبثق من الإسلام نفسه، حسب الذي يراه فقهاء الإسلام أنفسهم لأنهم أكثر الناس تمعّناً بالفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية من جهة، وتأثيرهم في الفكر الغربي نفسه، من جهة أخرى، فلماذا نذهب إلى الفرع بدلاً من الأصل؟

    ويمكن اعتبار دراسات الإمام الشيرازي من أفضل ما يمثل هذه الحقيقة الكبرى، فقد وضع نظريات سياسية لبناء الدولة الإسلامية وطريقة عملها ومنهجها والطريق الذي يوصل إليها ضمن ما سمّاه بالتغيير وذلك من غير اشتراط لتبني نظرية غربية معينة.

    فإذا كان الغربيون رأوا أن الدين لا يبني دولة وليس له نظرية سياسية، فإنما ذلك رأي مبني على السلوك الكنسي، أما في الإسلام فإن هناك نظاماً متكاملاً وفقهاء فهموه ووضعوا له صياغته القانونية المناسبة.

    وبالطبع، فهناك من يرى ضرورة الاعتماد على وجهة نظر غربية محددة لا يحق لأي أحد أن يتجاوزها مهما كانت الظروف، فيختار نظرية ما، بكل ما فيها من خلل واضطراب، ولعل أبرز الذين مثلوا هذا الاتجاه، هم الماركسيون، بمختلف فصائلهم وتعدد آرائهم، ولكن تطورات العالم قد أثبتت فشلهم، وخاصة، بعد انهيار المجتمع الذي ضيع من عمره سبعين عاماً من أجل محاولة تطبيق الماركسية، ثم اضطر إلى إعلان فشل نظريته في تحقيق الهدف المعلن عنه من وراء تطبيقها، مما تنبّأ به الإمام الشيرازي قبل أكثر من عشرين عاماً. فأيهما أحقّ بالاتباع أولئك الأدعياء، أم الرؤية السياسية الصائبة التي تنبّأت بسقوطهم؟!

    لقد سقطت التطبيقات الاشتراكية في جميع أرجاء العالم، لا بسبب التدخل الأجنبي على ما كان يشيعه أنصار تلك التطبيقات والمستفيدون منها، وإنما لأسباب داخلية، تتعلق في فشل الماركسية وتوجهاتها، وأثبت ذلك أنه لا توجد نظرية تستطيع أن تجمّد الإنسان ضمن إطارها. فثمة خلافات واختلافات في الخصائص النفسية، وفي مراحل التطور والوعي، وفي طبيعة حاجات الناس اليومية.

    إن دراسة تطورات التاريخ، وخاصة ما اكتشفه العلماء في دراساتهم عن اختلاف العادات والتقاليد بين الشعوب، أثبتت أن تلك الاختلافات التي هي مسألة جوهرية، لا يبدو أن الأفكار الوضعيّة تستطيع أن تحلّها، حتى يتطور العالم حضارياً، وتتصاعد العلاقات بين الشعوب والأمم، ويتبيّن العالم النهج الأصوب والأنفع والأجدى، والذي نراه متمثلاً في النهج الإسلامي الذي أنزله الله، تبارك وتعالى، هداية للبشرية، فخالق الناس أعلم بما ينفعهم وما يضرّهم، وتلك بديهية لا سبيل إلى إنكارها.

    من هنا ينبغي أن تتجه البحوث المنصرفة إلى تحديد مميزات الفكر السياسي لدى أي شخصية علمية، خاصة، إلى البدء من تحليل رؤى تلك الشخصيّة نفسها، بكل ما في الكلمة من معنى، أي بدراسة منهجها في رسم النظام السياسي للمجتمع المأمول بجميع شرائحه وفصائله، ودراسة الموقف من القيادة السياسية، والحكومة والمؤسسات، ثم دراسة نشاط أبناء المجتمع المسلم، وعلاقتهم بالخطط التغييرية، ومدى اندماجهم في عمليات التغيير والوعي، بل ومدى تعبير تلك العمليات عن أهدافهم، وبخاصة على صعيد الهدف الاستراتيجي العام وهو تحقيق دولة الإسلام الواحدة في جميع أرجاء العالم، إذ لا وصول إلى الآمال بدون تحديد أهداف مرحلية وأهداف استراتيجية يمكن الوصول إليها، وبالطبع فإن هذا التحديد لا يمكن أن يتم من غير فكر سياسي، أو لا أقل من وجود نظرية سياسية.

    ويفترض أن الأداء السياسي في العالم كله، يجب أن يهدف إلى مجموعة كبيرة من الأهداف التي يمكن إجمالها بكلمات قليلة وهي سعادة الإنسان، ووحدة المجتمع... ولا يمكن أبداً أن نتخيل دولة من غير أن تضع ذلك الهدف في صلب اهتماماتها الأولى وسعيها الدؤوب، ولكنّ الواقع يثبت فشل جميع حكومات العالم الحديث في الوصول إلى تلك الغاية، والأدلة كثيرة تشهد بشقاء البشرية، وازدياد تعاستها.

    وبمقدار ما يتعلق الأمر بحدود هذا البحث، ومنهجيته، فإننا لا نخطأ إذا قلنا إن الهدف الذي نستنبطه من كتابات الإمام الشيرازي، على ما سيأتي تفصيله، يكاد لا يتجاوز تحقيق سعادة الناس، ووحدة المجتمع الإسلامي.ولكنه يعطي لمفهوم سعادة الإنسان بُعداً أخروياً، أي أنّ الهدف هو رضوان الله جلّ وعلا، ونصل إلى هذه الحقيقة من خلال استنباط الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يرسيه الإمام الشيرازي على أسس الإسلام الحنيف، والذي يجد له انعكاسات معينة في جملة من أكثر النظريات السياسية العلمية احتراماً ورصانة، على ما سوف نثبت ذلك.ويمكن أن نذكر اقتراح العالم الاجتماعي ف. بوريكو بأن يتم تحديد علم السياسة

    (كمجموعة من العمليات المتطورة يحقق المجتمع بواسطتها وحدته) لنرى أنه قد أخذه من دراسته للفكر السياسي الشيرازي، من خلال فهمه لتبنّي الإمام الشيرازي لوحدة الاجتماع، خاصة وأن البلاد الإسلامية مكوّنة في الأساس من مجموعة من المجتمعات الصغيرة، القبيلة، والأسرة، والمنطقة الجغرافية.. وغيرها.. هذا من ناحية.

    ومن ناحية أخرى، فإن هذه البلاد الإسلامية مقسمة إلى جغرافية سياسية منوّعة، ونكاد نقول غير متوافقة، بفعل انقطاع التواصل المطلوب بين الشعوب، وبفعل اغتصاب الظالمين والديكتاتوريين للسلطة، وبفعل خلافات الحكومات ومشاكل التنمية العرجاء والتغريب المتواصل.. هذه البلاد الإسلامية المتفرّقة تستطيع إعادة صياغة وحدة الاجتماع، لا على أساس نظري فحسب، وإنما، أيضاً على أساس تطبيقي عملي.

    إننا حين نربط معيار نجاح الفكر السياسي بتحقيق وحدة الاجتماع برغم كل المعوقات، نوفّر إمكانية تطبيقية هائلة لاستنباط ملامح الفكر السياسي الشيرازي الذي يتبنّى تلك النتيجة الباهرة المتمثّلة بإقامة دولة الإسلام الواحدة.

    إن هذا المنطلق لدراسة فكر ومنهج الإمام الشيرازي مكّننا في هذا البحث، من النظر إلى مسائل بحثها سماحته وتعتبر من أسس علم بناء الدولة في العصر الحديث، وذلك من الوحدات الصغيرة ـ بحسب تعبير الإمام الشيرازي نفسه ـ كإدارة العائلة الصغيرة ثم العائلة الكبيرة حتى المشاريع الأكثر طموحاً: كإنشاء الحكومة، والمؤسسات الاقتصادية، وتنظيم القوات المسلحة بكل فصائلها.. إلخ.. حيث إن كل هذه المشاريع هي تقسيم جديد للمجتمع، ولكنه تقسيم يصب في إطار وحدة الاجتماع، ويزيد من ترسيخها مع إدراكنا بأن كثيراً من الحكومات في العالم الإسلامي قد حولت مجتمعاتها إلى قوى متناحرة، من عسكرية، ومخابرات داخلية، وقوى حكومية ومؤسساتية، فمزّقت المجتمع، إذ أنها كوّنت طبقة عسكرية مترفّعة، وطبقات اجتماعية متفاوتة جداً. غير أنّ رؤية الإمام الشيرازي إلى هذه التقسيمات تحوّلها إلى زيادة وحدة المجتمع المسلم، واستطاع الإمام الشيرازي، أن يرسخ وحدة الاجتماع من خلال تطوير الأفراد والجماعات، وفهم جيداً التحديات التي تواجهه على أرض الواقع الحالي، كالديكتاتورية والاستعمار وغيرها، ثم إن ذلك الفكر استطاع أن يوجه الناس نحو الأهداف العليا. حتى أننا لا نستطيع إنكار أن الاستفادة من العقبات ميزة من أبرز ميزات الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي للإمام الشيرازي. وربما كان هذا عائداً ـ في جانب من أهم جوانبه ـ إلى المعايير الخلقية التي تحكم مسار ذلك الفكر.

    إن الإمام الشيرازي لا يريد منا أن نعود إلى المفهوم القديم للدولة الأموية والعبّاسية، بمقدار ما يريد ترسيخ الخطوات التغييرية، ورفع مستوى المجتمع لأداء الوظائف السياسية التي على السلطة الحديثة واجب تنفيذها وتحقيقها، عبر جميع الطرق والأساليب المنسجمة مع الشرعية والصلاحية التي تتمتع بها الدولة الإسلامية، وهذا ما استفاد منه، بكل تأكيد، كثير من علماء السياسة المعاصرين، على ما سنذكره في موضعه.

    إن عملية تطبيقية، بهذا المدى، وفي مؤلفات الإمام الشيرازي بالذات، ومعاناته الشخصية في أكثر من بلد في هذا العالم، ستثير في نفوس الباحثين الانبهار، وتجعلهم خاضعين لرؤاه، وخاصّة حين يعايشون الإمام الشيرازي عن قرب، ويطّلعون على صفاته الشخصية. ويمكن الاستفادة من هذه المشاعر مع استخدام أسلوب التحليل العلمي للفكر وتأثيره في الزمن الحالي والمستقبلي. في نفس الوقت نجد أن العالم الإسلامي يمرّ بمرحلة حرجة جداً، فهناك سقوط أخلاقي رهيب في بعض البلدان، وهناك تجارة بالشعارات باسم الثورية تارة وباسم القومية تارة، وباسم الاشتراكية حيناً، وباسم الديمقراطية أحياناً، ثم باسم تحرير فلسطين التي يعطونها بعداً قومياً لا مبرر له، ولم يستطيعوا عن طريقه الوصول إلى أي نتيجة، والأجدر بهم تحرير أنفسهم أولاً من التبعية للدول الاستعمارية.

    ويحدد الإمام الشيرازي كل ذلك الانهيار ويرى أن حال هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به حالها أولاً عبر التجربة التاريخية نفسها، أي بالإسلام والإسلام فقط.

    إن المراقبة الواعية لمجريات ما حصل ويحصل على الأرض الإسلامية، وازدياد الوعي العام بضرورة الدولة الإسلامية الواحدة، يشجع الباحثين المخلصين على المضي في دراسة فكر الإمام الشيرازي، من غير اكتفاء بالجانب النظري، لأن الفكر السياسي الشيرازي بجوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يجد مصاديقه في الواقع، بل لا نغالي إذا قلنا إن ذلك الفكر هو تعبير عن واقع معاش بكل مرارته وأحلامه، وهو أيضاً تنظير لواقع مأمول سرعان ما سيصبح معاشاً، بصورة تنفي أي صورة من صور الاختلاف بين الشعار والتطبيق، كما يلغي، بالتالي، إمكانية التناقض بين الأمرين.

    هناك، وقبل أي أمر آخر، حقيقة علمية يفرضها هذا البحث، ويلتزم بها الباحثون الجادّون، بل ويتبنونها، وهي الاقتراب أكثر فأكثر من سماحة الإمام الشيرازي نفسه.

    إن هذا الاقتراب يفتح آفاقاً ضرورية لفهم الإمام الشيرازي وأفكاره المستنيرة، ولنتبين شرعية القيادة السياسية، وطبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي، باختلاف مكانتهم ومنزلتهم الاجتماعية، ودورهم في عملية التغيير، مما يعني معرفة مدى النجاح في تحقيق الأهداف الحقيقية للدولة الإسلامية، خاصة في تكامل المجتمع، والتحام المواطنين مع بعضهم البعض.

    وقد ساعدت نصوص مؤلفات الإمام الشيرازي على استنباط هذه القاعدة التي تجري بموجبها عملية النهضة التغييرية. وذلك مما يقدم مساعدة كبيرة في إنجاح عملية التغيير، بفعل الإرادة المبدئية القوية التي تقود مسلمي العالم نحو غدهم المرتقب، ومن خلال ما يقدمونه على الصعيدين النظري والعملي، وتمكّنهم من التعرف على ملامح الفكر الإسلامي بصياغة جديدة يقوم بها الإمام الشيرازي، ودورهم هم في صناعة الغد، بفعل طواعية الاندماج في العملية التغييرية، والشعور بالمسؤولية. وبهذا يمكن الاستدلال على وجود رأي عام، وقناعة شعبية عامة، بضرورة تبني ذلك الفكر الموصل إلى تحقيق حكومة ألف مليون مسلم.

    وإذا قبلنا هذه المنطلقات المعتمدة على الانبثاق من الواقع الإسلامي نفسه، والمطّلعة على أحوال العالم، فإن النتيجة الحتمية التي سنصل إليها هي أن السلطة السياسية في دولة الإسلام، لا تقتصر على جانب من جوانب المجتمع المسلم، بل هي حاصل دمج واع بين الفقهاء، والحكومة، وسائر أبناء الاجتماع. وتدل التجارب التاريخية على أن التواصل الخلاق بين جميع أبناء الاجتماع حاكمين ومحكومين، هو عملية منبثقة من النظرة الإسلامية للمجتمع الذي عنه تنبثق الحكومة، بالدرجة الأولى، من غير إغفال لدور الظروف الموضوعية التي يولّدها الوعي، أو تلك التي تساعد على تطويره مما يندرج في العادات والتقاليد، ما كان موروثاً منها، وما كان جديداً، لأنهما، معاً، نتاج البيئة وما فيها من أخلاقيات، سواء على الصعيد الشخصي أم على الصعيد الاجتماعي، نعني بذلك كلاً من المكونات الذاتية لطبيعة العلاقات الشخصية بين الناس، وطبيعة علاقاتهم ككل مع القيادة السياسية للدولة الإسلامية.

    كما أن هذه النظرة ستفتح أمامنا آفاقاً لا تحد لفهم دور القوانين الإسلامية، في تنظيم المسيرة العامة للبلاد الإسلامية الموحّدة.. إضافة إلى استبيان الطاعة التي يظهرها المجتمع للقيادة التي تطبّق إرادة الله، سبحانه وتعالى، والتي تستطيع أن تستثمر ثقة الناس بها في ترسيخ دور القانون الإسلامي في النهوض بالمجتمع، كأفراد، وجماعات، وعناصر سكانية، وكمناطق جغرافية متنوعة، وكمذاهب، ثم كمجتمع موحد ومتماسك، للتقدم عبر العمل المثمر البنّاء الذي هو مصداق للشعارات الإسلامية وليس نقيضاً لها.

    وإذا كان هناك اعتراف ضمني أحياناً وصريح أحياناً كثيرة، من أن المفكر السياسي يواجه صعوبة بالغة، في تقويمه للنشاط السياسي في أي بلد من البلدان، ولدى أية شخصية من الشخصيات، وخاصة في ظروف العالم الإسلامي المختلف والمتنازع كثيراً هي غموض وسائل البحث والاستقصاء، إضافة إلى قلّة الإمكانيات، والحصار الذي يتعرض له كثير من حملة الفكر الحر من الفقهاء والمثقفين وغيرهم، وقلة الشواهد والاستبيانات المساعدة على تصور أكثر نضجاً للأهداف السياسية والركائز الفكرية، فإن كتابات الإمام الشيرازي ورؤاه التنظيرية، برغم الحصار المفروض على سماحته، تقدم برهاناً عملياً مشاهداً وملموساً على إمكانية نجاح عملية تقويم الأداء السياسي للمجتمع المسلم المأمول الوصول إليه، ويعنينا من كل ذلك، هنا، الفكر السياسي وأساليب تنفيذه، ووصوله إلى مستوى الكفاءة لغرض تحقيق الأهداف المرجوة منه، بحيث يستطيع الباحث، اليوم، وبشيء من الجد والتضحية اللازمة، أن يجد قناعاته ورؤاه في ملامح ذلك الفكر، من خلال الملاحظة والتحليل الموضوعي.

    ونعتقد أن هذه الأسباب قدمت فائدة كبيرة لهذه الدراسة، ووفرت إمكانيات جيدة للتطبيق، سواء في مستوى البحث عن الجذور والاستمرارية والتحليل، أم على مستوى الدراسات الإحصائية، مما تعنى به التقارير والدراسات السياسية الأخرى.

    أما الإمام الشيرازي، الذي هو محور هذا البحث، فهو السيد محمد المهدي الحسيني الشيرازي.. الذي يهيئ مهاداً قوياً للعمل التغييري باتجاه تكوين دولة الإسلام الواحدة في جميع أرجاء العالم، مما هو مدعاة لافتخار كل مسلم على وجه الأرض.

    وهنا ملاحظة لابد من إبدائها، وهي أن للسيد الإمام الشيرازي ما يزيد عن سبعمائة كتاب، تتداخل موضوعاتها بين الفقه والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون وغيرها.. ولم نكن، في هذا البحث نريد إعادة ما ذكره سماحته في كتبه، ولا إلى عرض تلك الكتب، فذلك مما لا يمكن تحقيقه لا من قبل باحث واحد ولا من قبل عشرات الباحثين، لذا كان همّنا الأساسي متجسّداً في الكشف عن منهجيّة سماحته، وجوهر أفكاره، وإعادة تمثّل رؤاه، بأسلوب أكاديمي بحثيّ عصري يستجلي أهداف فكر سماحته، عسى أن تستفيد الأمة الإسلامية من هذه الاستخلاصات الدقيقة لتبني حاضراً أفضل ومستقبلاً هانئاً سعيداً..

    وكان من المقرر أن نصدر كتاباً مستقلاً لكل من السياسة والاجتماع والاقتصاد حسب منهج الإمام الشيرازي في بحث موضوع الدولة الإسلامية.

    وكان مبررنا المشروع في ذلك أن للإمام الشيرازي رؤيته الثاقبة لكل من هذه المجالات الحيوية الثلاثة.

    ولكن حين بدأنا البحث رأينا الإمام الشيرازي لا ينظر إلى هذه الموضوعات نظرة مستقلة بكل واحد منها، بل هو يربط السياسة بالاقتصاد بالاجتماع ربطاً محكماً، فالاقتصاد عند سماحته، مثلاً، ليس علماً مستقلاً أو منفصلاً عن الاجتماع، وخاصة أنه يؤكد على بعده الاجتماعي ويمنحه الخصائص الأخلاقية، فيكون الاقتصاد جزءً من الاجتماع، فلا اجتماع بلا اقتصاد ولا اقتصاد بلا اجتماع، وكلاهما ليس له وجود حقيقي حين لا تكون هناك أخلاق وسياسة إسلامية.

    لذلك وجدنا أنفسنا أمام اكتشافات فكرية جديدة تماماً على الفكر الإنساني في كل من تلك الميادين الثلاثة، ففي السياسة بمفهومها العلمي نجد سماحته يعتبر السياسة علماً أخلاقياً قبل كل شيء، وفي الاجتماع نجد ممارسة التغيير وشروط الأمن والسلام، وفي الاقتصاد نجد نظرية المصرف الإسلامي (البنك الإسلامي) ونظرية النقد، ونظرية (الاقتصاد الاجتماعي) وهذه من الأمور التي لم يلتفت إليها أحد قبل الإمام الشيرازي. فقد كتب مفكرون كثيرون في السياسة وكتب آخرون في الاجتماع، وهناك من كتب في الاقتصاد، فنجد بحوثاً في الاقتصاد المقارن، وللإمام نفسه بحث في هذا الموضوع، وهناك (الاقتصاد السياسي) أما (الاقتصاد الاجتماعي) فلم نر أحداً من الباحثين قبل الإمام الشيرازي قد تطرّق إليه، وهذا ما ذكره سماحته في الميدانين الآخرين، أي السياسة والاجتماع.

    ولذا قر رأينا على أن نتناول السياسة والاجتماع والاقتصاد معاً بناء على منهج الإمام الشيرازي في دراسة الموضوعات المذكورة.

    والحقيقة أن متابعة أي موضوع من هذه الموضوعات، من وجهة نظر الإمام الشيرازي سيقودنا إلى الموضوعين الآخرين، فأي بحث في السياسة الداخلية أو الخارجية للدولة سيؤدي بنا إلى النظر في الاجتماع والاقتصاد، وهكذا حيث البحث في الاجتماع والاقتصاد، حيث نجد أنفسنا مسوقين للحديث عن علم السياسة، فهناك عرى وثيقة بين جميع هذه الموضوعات بفعل أنها جميعاً تنبعث من جوهر فكري واحد هو الشريعة الإسلامية التي تمثل بؤرة أساسية في تفكير الإمام الشيرازي، ومنها تنطلق أشعة تسير على هديها جميع المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكلها تقوم عند سماحته على أساس الأخلاق.

    وإذا كان لابد من شواهد للتدليل على هذه الرؤية فننقل هنا نصوصاً، دالة على ذلك الترابط:

    * الأول: من كتاب (السياسة) لسماحة الإمام، وفي النص علاقة واضحة بين الموضوعات الثلاثة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث يقول:

    (السياسة هي عبارة عن إعمال القدرة، وأن القدرة حقيقة واحدة لها مظاهر، وأن بعض أقسام إعمال القدرة مصلح، وبعضه مفسد فأهم ما يجب أن يبحث عنه في علم السياسة أمور ثلاثة: الأول: ما نوع السياسة الذي يجب أن يسود المجتمع حتى يوفر أكبر قدر من الخير لأكبر كمية من أفراد المجتمع. وإنما لم نقل كل أفراد المجتمع لأن الغالب، إن لم يكن الدائم، تضارب مصالح المجتمع، حقيقة، ولا أقل من زعم التضارب عند جماعات من الناس، فلا يمكن أن يعم الخير في المفهوم العرفي، الجميع. (وهذا ربط واضح للموضوع السياسي بكل من الاجتماع والاقتصاد، وفي نفس الوقت ربط لهذين العلمين بعلم السياسة، ويواصل سماحته):

    مثلاً: في الحال الحاضر، النظام الرأسمالي، تتضارب فيه مصلحة كبار الأثرياء مع مصلحة الطبقة العاملة، والنظام الشيوعي تتضارب فيه مصلحة الطبقة الحاكمة المالكة للثروة والقدرة مع مصلحة بقية الشعب، والنظام الديمقراطي تتضارب فيه مصلحة الأحزاب بعضها مع بعض، إذ كلّ يريد تنفيذ برنامجه والوصول إلى الحكم، والنظام الديكتاتوري تتضارب فيه مصلحة الديكتاتور ومصلحة الشعب، إلى غير ذلك.

    الثاني: ما هي الوسائل التي تصطنعها الدولة لتنفيذ هذه السياسة، إذ قد تختلف الوسائل مع وحدة الهدف...

    الثالث: ما هو نوع التأثير الذي يمكن أن يكون لنا في اختيار هذه السياسة واختيار هذه الوسائل.... فالبحث السياسي قرار، وكيفية تنفيذ ونتائج تترتب على القرار، وكلاً من الثلاثة لها أشكال، ولذا يجب أن يبحث السياسي عن ما هو القرار الملائم؟ وعن ما هو التنفيذ الملائم لهذا القرار؟ وعن ما هو الأثر الذي يتوخّاه من هذا القرار؟)(1).

    * الثاني: وهنا نص آخر، ولكنه اقتصادي، يتوضّح فيه الربط بين الاقتصاد والاجتماع، ثم ننقل نصاً ثالثاً من أوائل الكتابات الاجتماعية للإمام الشيرازي حيث يتوضّح الربط لا بين الاقتصاد والاجتماع، هذه المرة، بل بين الاجتماع والاقتصاد، وبمعنى آخر، أنه لا فصل بين الاثنين أبداً.

    فأما النص الاقتصادي، فقد ورد في مقدمة كتاب (الاقتصاد بين المشاكل والحلول) حيث يقول سماحته:

    (الاقتصاد هو عصب هامّ للحياة، وتقاس الأمم، فيما تقاس، باقتصادها. فالأمم الفقيرة تسحقها أنياب الزمن، وتطحنها عجلات الدهر، فلا يبقى لها اسم ولا رسم. ونحن عندما نقرأ التاريخ لا نرى شيئاً يذكر عن الأمم الفقيرة، لأن التاريخ هو، عادة، سرد لحياة الأمم المتحضرة. والحضارة اقترنت بالاقتصاد، فهي كالإنسان الحي يولد ثم يكبر ثم تستولي عليه الشيخوخة. وهي جسد وروح، جسدها الاقتصاد وروحها الأخلاق.

    وإذا نظرنا اليوم (يقول الإمام الشيرازي) إلى الحضارة الغربية لوجدناها جسداً بلا روح، لأنها حضارة تمتلك الاقتصاد وحده من دون الأخلاق، فكان نتاج ذلك الربا والاحتكار والاستغلال والحروب. فالاقتصاد بلا أخلاق يتحول إلى معول للهدم وعامل للتدمير)(2).

    وبعد أن يستعرض سماحته الويلات التي جرّها الاستعمار على العالم الإسلامي وغيره نتيجة النظرة الاقتصادية المبتعدة عن الأخلاق، يقرر:

    (وإذا ما أعدنا النظر ثانية لوجدنا أن عالمنا اليوم هو أحوج ما يكون إلى اقتصاد سليم قائم على شريعة سمحاء ومُثُل سامية وأخلاق نبيلة.

    اقتصاد هدفه إسعاد البشرية جمعاء، وليس تحويلهم إلى بهائم يأكلون ويشربون.

    اقتصاد ينظر إلى الجميع نظرة مساواة، كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أسود على أبيض.

    اقتصاد نابع من وجدان الإنسان، قادر على تفهّم مشاكله، ويستطيع أن يضع الحلول الناجحة لها. ومثل هذا الاقتصاد لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل الإسلام)(3).

    فهل هناك شك في ما قررناه قبل قليل من أن الإمام الشيرازي قد ابتكر علماً جديداً هو (الاقتصاد الاجتماعي) حين ربط قضايا الاقتصاد بالأخلاق وجعلهما يتحركان في أجواء الاجتماع تحركاً حراً مسؤولاً؟!

    * الثالث: وإذا كان ذلك النص يتعلّق ببحث اقتصادي فلننظر إلى نص آخر يتحرك هذه المرة في إطار الاجتماع، وهو بحث لسماحة الإمام عن المرأة نشره قبل أربعين عاماً في سلسلة منابع الثقافة الإسلامية، ونمعن النظر في أثر الاقتصاد فيه، قال سماحته:

    (المرأة.. موضوع كثر الكلام حوله.

    وغالب الكتّاب الإسلاميين الداعين إلى الفضيلة والعفاف، يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام، وحال المرأة في ظلّ الإسلام.

    وهي مقارنة صحيحة.. لكنّ الكلام لا ينتهي عند هذا الحد.

    إننا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي، وبين المرأة في المجتمع الغربي.

    ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنما نريد عرض طرف من حقوق المرأة في المجتمعين، لنرى هل راحة المرأة جسدياً وفكرياً، وصحتها وثقافتها ونظافة سمعتها وإشباع غرائزها وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه، في ظلّ الإسلام أم في ظلّ الكفر)(4).

    أي أنّ سماحته ينظر إلى قضية المرأة، وبالتالي، إلى قضية المجتمع كله، بناءً على:

    * حقوق الإنسان، المعبّر عنها هنا بالراحة الجسدية والفكرية والصحة والثقافة، وإشباع الرغبات أو الغرائز المشروعة.

    * من زاوية الأخلاق، المعبّر عنها هنا بنظافة السمعة وطهارة المجتمع.

    وعلى هذه المنطلقات يشيّد الإمام الشيرازي، رؤيته للموضوع:

    (تعيش المرأة في ظلّ الإسلام، ولها من الحقوق والواجبات مثل ما على الرجل من الحقوق والواجبات، فهي شقّ له في كلّ شيء.. إلا بعض الأمور التي استثنيت من جهة عدم المقتضى، أو وجود مانع.

    فهي تشارك الرجل في الصلاة والصيام والخمس والزكاة والحج والجهاد.

    ولكن، حيث إنّ لها وظائف بيتيّة، بالإضافة إلى خشونة الجهاد الذي لا يناسب ضعفها، ودقة جهازها، ووفرة مشاعرها الرقيقة، لا يحمّلها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في الضرورة فقط، وهذا مشروح في كتب الفقه.

    كما تشاركه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وولاية الصالحين والبراءة من المجرمين.

    هذا بالنسبة إلى العبادة، أما المعاملة بمعناها الوسيع، فلها التجارة والرهن والضمان والوديعة والمزارعة والمساقات والمضاربة والشركة والصلح والعارية والإجارة والوكالة والوقف والهبة والوصية، كما يجري عليها الحجر والفلس..

    ولها النكاح والطلاق (إذا اشترطت) والنذر والحلف والعهد والعتق والتدبير والمكاتبة والإقرار والجعالة والصيد والذباحة والشفعة وإحياء الموات واللقطة والديات والقصاص والإرث..

    كما أنّ الطعام والشراب بالنسبة إليها كسائر الرجال.

    وغير ذلك..

    نعم لها بعض أحكام خاصّة في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة، مثلاً في الإرث لها أقلّ من حقّ الرجل لأنّ الرجل هو القائم بالنفقة وعليه تبعة المسكن والملبس.

    وليس الطلاق بيدها على الإطلاق، لأنّ حقّ القيمومة للرجل وذلك لأنّ إدارة البيت لابدّ أن توكل إلى واحد، وحزم الرجل أكثر من المرأة، ولذا جعلت إليه، وفي قبال هذا الواجب جعل حقّ الطلاق لتتكافأ الحقوق والواجبات.

    وهكذا.. وهكذا..

    وقد كانت المرأة في ظلّ الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفّهة لها حقوقها وعليها واجباتها.. حتى جاء الغرب فرآها محرومة عن (حقين)! فدافع بكلّ ما أوتي من حول وطول، لإرجاع الحقّين! إليها).

    ثم يبيّن الإمام الشيرازي ما يسمونه بـ (الحقّين) ويناقشهما مناقشة علميّة هادئة، مستشهداً بأقوال علماء الغرب أنفسهم، مبيّناً أنّ (الحقين) المزعومين هما الاباحية وانتهاك جسد المرأة وإشغالها بما لا يلائم طبيعتها(5).

    وواضحٌ أنّ هذا النصّ، ومجال بحثه المرأة، لا يتناسى البعدين الاقتصادي، والسياسي للموضوع، بل يدخلهما في صلب معالجته لحقوق المرأة الاقتصادية، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حقوقها الأخرى.

    بل أن سماحته يعقد فصلاً مستقلاً في كتابه (الاجتماع) يجعل عنوانه (الاقتصاد الاجتماعي)(6) وفيه فصّل الكلام في هذا الموضوع، وأزال أي شك في مدى التطوير الذي أدخله سماحته على الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، حين مزج بين الأمرين وخرج منهما بموضوع جديد ورؤية جديدة.

    هكذا نرى أنّ الإمام الشيرازي لا يكتفي، وهو الفقيه المعروف، بمسائل الفقه وتحديداتها، بل يتجاوز ذلك إلى أحاديث لها علاقتها بالحياة الاجتماعية العامّة، سواء ما تعلّق منها بالرجل أم بالمرأة، بالأطفال أم بالشباب، بالاجتماع أم بالاقتصاد.

    ومن هنا يأتي اهتمامنا بفكر سماحته في نواحيه المتعددة الجوانب والاجتهادات في السياسة والاجتماع والاقتصاد. فلا مسوّغ لمن يريد أن يسأل عن سبب الاهتمام بالإمام الشيرازي، ومنهجه وفكره.

    ونحن حين نقرّر هذا إنما نجيب على أسئلة قد يوجهها بعض من لم يتعرّفوا على الإسلام وأخلاقياته، بشكل كافٍ، وذلك لأن العلماء والفقهاء يستحقّون ما هو أكبر من ذلك، يستحقون الاتّباع والحرية الحقيقية في قيادة الأمة، واتاحة الفرصة أمامهم كاملة ليؤدوا دورهم في توعية الناس. إنّ علينا أن نسير معهم ونفهم آراءهم لكي تتوحّد مسيرتنا بقيادتهم الشرعية المتمثلة اليوم في بضعة رجال قلائل يقف في مقدمتهم سماحة الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، ليحتلّ مكانة رفيعة في عالم اليوم، بالرغم من كل أنواع الحصارات والإشاعات التي واجهها، سماحته، طيلة مسيرته الإسلامية الشاملة، برحابة صدر وسماحة نفس، وتلك هي أخلاق العلماء الكبار، في كلّ العصور.

    إننا نريد من وراء هذه البحوث أن نكشف عن منهج ناضج من مناهج العلماء المسلمين، لما فيه خير هذه الأمة في حاضرها ومستقبلها، هذا من جهة..

    ومن جهة أخرى.

    فإن نظريات الإمام الشيرازي، تهدف إلى تغيير الواقع في العالم الإسلامي، بل في العالم كلّه، نحو الأفضل لأنها حصيلة الفهم الواعي للإسلام بمصادر تشريعه الأربعة (القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة والإجماع والعقل) وتاريخه الحافل وتراثه العظيم، إضافة إلى فهم العصر الحديث والتغيرات الكبيرة الحاصلة فيه، ما بين شيء إيجابي وآلاف الأشياء السلبية الضارة فإن المشاكل والمآسي التي يتخبّط بها العالم اليوم لا مجال لها في ظلال دولة الإسلام المأمولة.

    وحسب رؤية الإمام الشيرازي فإن الأمر في حالة تطبيق الإسلام يجري على وجه آخر، وبعبارة أكثر دقة، على وجه ترتضيه الشريعة الإسلامية السمحاء التي فيها جميع سنن وقوانين التطور. وآية ذلك كتابات التاريخ التي تثبت أن المسلمين، برغم فقرهم وصعوبة ظروف حياتهم، استطاعوا وبفترة وجيزة وقصيرة، من التاريخ، أن يعبروا إلى مستوى متطور من بناء دولة الإسلام ومجتمعها المتماسك واقتصادها المتين. وذلك تميّز عائد إلى جملة مسائل على أقصى درجات الأهمية، وهي:

    أولاً: ان نظرة الأديان إلى الدنيا تنطلق من الإقرار بأن تلك الدنيا وما فيها من الثروات، هي مسألة وقتية زائلة، ولا يصحّ الاكتفاء بها ولا الاعتماد عليها، بل يجب أن تكون جسراً إلى الآخرة.

    ولقد تكررت هذه الرؤية في كتابات الإمام الشيرازي حتى أصبحت مظهراً من مظاهر تطوّر الفكر الإسلامي في العصر الحديث.

    إن الإمام الشيرازي قد كشف بشكل واضح وجريء أن هدف كل الأعمال الحصول على رضوان الله، تبارك وتعالى. فأصبح لازماً تحقيق رسالة الإسلام في الأخوة والمحبة والتعاون والتكافل الاجتماعي، وبذلك يكون هدف التغيير هو المجتمع الإسلامي ذاته. فما دام الفرد المسلم والاجتماع الإسلامي هو هدف تلك العملية فلابد أن يقوم كل واحد بواجباته التي حددتها له الشريعة وأوضحها بكل جلاء الإمام الشيرازي في بحوثه المتنوعة. وبذلك فتح الإمام الشيرازي أبواب المستقبل أمام الفرد المسلم ليتمتّع بثمار عمله، على ما سنلاحظه بجلاء في فصول هذا الكتاب.

    وهكذا يقودنا الإمام الشيرازي لنفهم أنّ النهضة الإسلامية، بمرتكزاتها ووسائلها وأهدافها، تؤدي إلى مزيد من الكشف عن مكامن إبداع الفرد المسلم فيها، ومنزلته في تطوير نفسه وأهله وجميع أبناء مجتمعه.

    هذا الكتاب يهدف إلى دراسة فكر الإمام الشيرازي ومنهجه في السياسة والاجتماع والاقتصاد، من خلال مؤلفات سماحته التي كشف فيها عن أصالة ذلك الفكر ومكوناته الأساسية التي هي (الشريعة) والأشعة المنطلقة منها، كما سنتبينه في دراستنا لأسس فكر سماحته، حصولاً على حقوق الأفراد والجماعات، وتحديداً لواجبات كل مجموعة من أبناء الاجتماع، كي يؤدي كل واحد وواحدة جميع تلك الواجبات التي على المسلم أن يؤديها تجاه نفسه وعائلته وجميع أبناء أمته. وقد رأينا قبل قليل أن سماحته يتحدث عن حقوق المرأة وواجباتها ويجعل كلاً منهما سبباً ونتيجة للثانية، وكذلك ما سنراه من نظرته إلى مكوّنات المجتمع الأخرى كالشباب والأطفال وحتى الرجال المكلفين تكليفاً شرعياً، وما التكليف الشرعي إلا واجب لا مفر من أدائه.

    لقد اتّخذ الكتاب طريقة منهجية علمية في تحديد مساره بضمن الكتابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للإمام الشيرازي سواء ما تجلى منها في البحوث التي كتبها سماحته، أم في الممارسة العملية التاريخية لرجالات الإسلام، مقترباً في لغته وتحليلاته من روح ونصوص البحوث الشيرازية نفسها، لأنها أقدر في التعبير عن ذاتها بذاتها.

    والتزم البحث بما يقتضيه المنهج العلمي من موضوعية تامة في النظر إلى المسائل والقضايا موضوعة الدرس والمتابعة.

    وإذا كان هناك باحثون يتحدثون عن الصعوبات التي واجهتهم في بحوثهم، فأحمد الله أن مثل تلك الصعوبات لم يعاني منها هذا البحث الموسّع عن فكر سماحة الإمام الشيرازي، فما استطعت توفيره من كتب سماحته قد فرش طريق البحث بالنظريات الصائبة الميسّرة والتي زاد من يسرها الأمثلة التي كان سماحته حريصاً على ذكرها، وكذلك الشواهد التاريخية الجمّة التي سهّلت الكثير من موارد نظريات سماحته، وأعطتها أبعادها التاريخية.

    إضافة إلى هذا يقتضيني البحث العلمي إلى أن أذكر أني أفدت من دراسات الفقهاء المسلمين للقضايا ذات العلاقة بموضوع هذا البحث، وخاصة في رسائلهم الفقهية، أثابهم الله بخير ثوابه وأجزل لهم الإحسان على جهودهم المضنية.

    ومن ناحية ثانية قدمت لي دراسات معاصرة عن السياسة والاجتماع والاقتصاد في بعض دول العالم الإسلامي إفادات منهجية جمة، وأخص بالذكر ما كتبه الدكتور خلدون النقيب عن دول الخليج، والدكتور محمد عابد الجابري عن الخطاب السياسي المعاصر، وما كتبه الدكتور هادي حسن حمودي عن سلطنة عُمان، وما كتبه حسين القهواتي عن التجارة في الخليج، ومجيد الماجد عن أزمة السياسة والشريعة في بعض الدول العربية. فهذه المؤلفات قدمت لي ذخيرة منهجية جيدة فهي تدور في إطار دول من العالم الإسلامي، بحيث تسهل المقارنة بين رؤى الإمام الشيرازي وبين ما يحدث في دول العالم الإسلامي المعاصرة، وتلك المقارنة تشير إلى الصواب والخطأ في التجارب الحديثة.

    أما المصادر الإنجليزية التي أفدت منها، فهي ما بين كتب في علم السياسة، وكتب في الاقتصاد، وأخرى في الاجتماع، وقد استشهدت ببعضها حيناً، وناقشت بعضها حيناً آخر، وقارنت بين ما جاء به كتابها وبين كتابات سماحة الإمام الشيرازي، ووصلت إلى قناعة تامة بأن كتابات سماحته قد أثّرت في كثير منهم، حتى وإن كابروا ولم يعترفوا بذلك، كما أن بعضهم قد انتقى من سماحته بعضاً وترك بعضاً، وذلك بناء على توجهات ذلك البعض وانتماءاتهم الفكرية، ومصالح دولهم، وقد أشرت إلى تلك البحوث في الحواشي التي وضعتها في آخر الكتاب منظّمة على أساس تسلسل الفصول في الكتاب.

    وبعد:

    فإن الأخذ بما يقوله الإمام الشيرازي، يحرّر المرء المسلم من التقليد والخضوع للرؤى الغربية بنفس مقدار رفضه للجمود، فيجمع الإبداع والتجديد من ناحيتين، ناحية الانطلاق من فروض الواقع الإسلامي ذاته، في تراثه العريق وحاجاته المعاصرة، ومن ناحية الاستفادة من العصر الحديث.

    وكذلك من العناية الكبيرة بالإنسان والأخذ به من تخوم الفردية والذاتية إلى الأخوّة الإسلامية بما تتحلى به تلك الروح، من إخلاص وجدّ ونزاهة، وبما تُلْزِم بذله من جهد مستنير يحقّق الأمن والطمأنينة والسلام.

    ولقد وصل بنا البحث في هذا الكتاب إلى الاقتناع التامّ بأصالة هذا الفكر ونجاحه الباهر في الجمع بين التراث العريق والحاضر الدفّاق بالعمل والأخوة والمحبة والتطلّع إلى الغد المشرق.

    ويبقى للإسلام فخرُه أنه يختزل الزمن، ويجمّع القوى الاجتماعية في بوتقة عمل تصهر جميع الفئات الاجتماعية والعناصر السكانية من أجل حاضر مُفْعَم بالسعادة ومستشرف لآفاق مستقبل مستنير، إن شاء الله.

    اللهم لقد بلّغنا، اللهمّ فاشهد..

    والله حسبنا، هو نعم المولى ونعم النصير.

    المؤلف

    لندن 1419 / 1998


    1 ـ السياسة: 1 / 238 ـ 239 .

    2 ـ الاقتصاد بين المشاكل والحلول: 7 ـ 8 .

    3 ـ المصدر السابق: 8 ـ 9 .

    4 ـ المرأة: 51. منابع الثقافة الإسلامية عدد: 19 / كربلاء المقدسة 1381 هـ .

    5 ـ لمزيد من التفصيل انظر المصدر السابق .

    6 ـ الاجتماع: 1 / 308 ـ 328 .
    جعفر الخابوري
    جعفر الخابوري
    مراقب عام
    مراقب عام


    عدد المساهمات : 475
    تاريخ التسجيل : 11/10/2009
    العمر : 54

    اية الله السيد صادق الشيرازي Empty رد: اية الله السيد صادق الشيرازي

    مُساهمة  جعفر الخابوري الثلاثاء نوفمبر 03, 2009 1:40 pm

    الدين والسياسة من النظرية إلى العلم

    ثمة أخطاء عديدة شائعة في فهم الدين، وفهم السياسة وفهم العلاقة بينهما. ونرى أنّ سبب هذه الأخطاء عائد إلى اختلاط المفاهيم بين الناس، وحتى بين المثقفين والمتعلّمين، فيما يتعلّق بمفهوم السياسة، ودور الفقهاء في العمليّة السياسية، سواء كانوا في السلطة أم خارجها.

    ومن أبرز تلك الأخطاء ما يذهب إليه كثير من الناس، من أنّ السياسة يقتصر مفهومها على النشاط الذي تقوم به حكومة من الحكومات خارج حدود الدولة، والتي تتراوح بين مفهومي الاستقلال والاستعمار.

    فهذه الرؤية تقصر مفهوم علم السياسة، على الحكومات، من جهة، وتفصل بينه وبين الممارسة اليومية للمواطنين، وعلى رأسهم قادة الرأي من العلماء الفقهاء ومن أهل العلم والاختصاص، والمثقفين الحقيقيين، بل جميع المواطنين المعنيين، قبل غيرهم بأيّ نشاط سياسي، يقوم به أيّ طرف من أطراف المجتمع.

    وبمراجعة متأنية للفكر السياسيّ الحديث، وهو في جملته، مبنيّ على أساس النظريات الغربيّة ذاتها، في النظرية السياسية، وفي مبادئ علم السياسة، والذي يتحدث عن دور الحكومات في العملية السياسية، وبالتعرّف على علاقة الحكومة بالمواطنين نصل إلى أن العلاقات الداخلية جزء لا يتجزأ من الفكر السياسي مهما كان توجهه بحسب ما تقرّره القوانين والأنشطة اليوميّة المنظمة لحالات التواصل أو الانفصام بين الحكومة والشعب، والعلاقات الخارجية بين دولة وأخرى. بل أن السياسة الداخلية والسياسة الخارجية هما وجهان لعملة واحدة.

    وإذا واصلنا مسيرتنا، عبر نظريات الإمام الشيرازي ونظريات علماء السياسة الماضين والمعاصرين، نصل إلى رؤية تذهب إلى أنّه لا انفصال بين السياستين، فبمقدار ما يتمتع البلد باستقرار حقيقي، تنمو العلاقات الخارجية. وبمقدار افتقار الوضع الداخلي إلى الهدوء والاطمئنان والأمان لا تحظى الدولة باحترام الشعوب الأخرى.

    ومن الواضح تماماً ان مصطلحات السياسة المعاصرة كالدكتاتورية والديمقراطية والاشتراكية وغيرها هي مصطلحات غربية بمعنى أنها تصف ملامح أنظمة غربية وخاصة بعد استقرار النمط (الديمقراطي) في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، ونمط الحكم الشمولي والديكتاتوري في منظومة المعسكر السوفيتي وتوابعه قبل أن تتفكّك تلك الدول وتسقط فريسة تراكمات هائلة من الإرهاب والديكتاتورية والسجون والمعتقلات، وبقية الأمراض الاجتماعية والسياسية، حتى أصبح (رفاق) الأمس أعداء اليوم، بل أشد من ذلك، مما نبّه عليه قبل أكثر من أربعين عاماً سماحة الإمام الشيرازي.

    ونظراً لسقوط الأمة الإسلامية في مرحلة فقدان الوزن الحضاري، وتشرذمها إلى دول متناحرة، وتمزّق أبنائها ما بين التيارات الغربية المادية، يتجلى لنا أن من الصعوبة بمكان، تطبيق أحد النموذجين بنجاح في دول العالم النامي ومنها العالم الإسلامي، العربي وغير العربي، لاختلاف في الخصوصيات المحلية وطبيعة وسائل الإنتاج وعلاقة الحكومة بالمواطنين، وهذا مشاهد وبكل قوة في النظم التي قلدت التجارب الأوروبية غربية أو شرقية متصورة أن ذلك سيضمن لها إحكام سيطرتها على الناس بالإرهاب.

    أما المفهوم الإسلامي للسياسة، وكما سيتوضّح في استجلاء فكر سماحة الإمام الشيرازي، فهو مفهوم أوسع من وظيفة الدولة، وأوسع من وظيفة زمن محدد ومكان محدد، لأنه فكر منبثق من الفلسفة الإسلامية للحياة، واعتبار أجزائها وحدة متكاملة مندمجة الأجزاء موحّدة الأركان، منها جزء اسمه السياسة، وآخر اسمه علم الاجتماع، وثالث اسمه الاقتصاد، وهكذا.. ثم إنّ هذه الأجزاء جميعاً منتظمة في إطار عامّ واحد يجمع جزئياتها وأجزائها، ويوحّد بينها ويمنحها صفة الحياة، ونعني بذلك الإطار (الفقه) الذي يدخل في كل جانب من جوانب الحياة بأنشطتها المتعددة، على ما تكشفه الكتب الفقهية ذاتها، وفي أوّلها الموسوعات الفقهية التي وضعها الإمام الشيرازي نبراساً للأجيال، وخير زاد لطلبة العلم، وأجمل إطار لجميع النشاطات الحيويّة التي يقوم بها الإنسان منذ لحظة ميلاده وإلى آخر يوم في حياته، بل ما قدّمه في حياته لما بعد مماته، حيث تبدأ الحياة الحقيقية التي تستحقّ أن يعمل الإنسان من أجلها الكثير من قبل أن يأتي عليه أجله، ويصل إلى محطته الأخيرة على هذه الأرض.

    والسياسة، بهذا المفهوم الكلّي، أو بذاك المفهوم الغربي المجزّأ، لها جانبان: النظرية، والعلم، فقد لا تكون النظرية صحيحة لأنها مجرد رأي يفتقد إلى الجانب العملي، بمعنى أن التنظير السياسي لا يتصف بصفة العلمية إلا إذا وجد مصاديقه في التطبيق العملي فيتحول حينذاك إلى علم؛ وإلاّ فيبقى في إطار النظرية؛ ولذا فمن غير العلمي وصف فكر سياسي معين بالعلمية ما لم يخرج من التنظر والإنشاء ليصطدم بمقولات الواقع الحيويّ المعاش، ومن هنا فإنّ ادعاء العلمية والعلمانيّة والعلمويّة التي ظهرت مؤخراً ليس لها أي حظّ أو نصيب من العلم، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، وطبعاً، لا يمكن لأي شعب أن يعتبر نفسه حقل تجارب فيقلد هذه النظرية مرة حتى إذا فشلت بحث عن نظرية أخرى، خاصة وأن لديه فكراً علمياً متكاملاً هو الإسلام.

    التنظير عبارة عن رؤية فردية، فحسب، وهذه عملية سهلة جداً، ولكن العلم عملية معقدة جداً، إذ لابدّ لها أن تنبني على أصول ومصادر تشريعية لا يرقى إليها الشك، مضافاً إليها عقل نيّر مجدد متجدد، يكتسب تراكم خبرته من ممارسته الذاتية للعملية السياسية على سطح الواقع ذاته، وممارسة الحكم، ونعني (بالحكم) هنا مفهومه العام، الحكم بمعنى الحكومة، والحكم بمعنى الممارسة في أيّ موقع كان، وذلك عبر مفهوم الإمام الشيرازي كما سنرى. وأياً كان الأمر فلابد للسياسي أن يتمكن باستمرار من فهم الواقع وكيفية عمله، والقوانين المتحكّمة في تطوّره، وعلاقة الروح بالمادّة، وطبيعة الإنسان، كفرد، والإنسانية كمجموعة أفراد تربط بينهم العواطف والتكاتف، ثم عليه الخروج دائماً برؤى ديناميكية ترفد النشاطات والعمليات السياسية الداخلية فالخارجية.

    على أنه يجب ملاحظة أن النشاطات السياسية الخارجية ـ على صعوباتها ـ سواء كانت بين دولة ودولة، أم بين مجموعات بشرية وأخرى، أيسر دائماً من النشاطات والعمليات السياسية الداخلية، في داخل الدولة، أو المؤسسة، وحتى الحوزات العلميّة، فالحوزة العلمية هي دولة مصغّرة أو هذا ما يجب أن تكون عليه، إلى حين استلام الإسلام للحكم، حيث يتّسع مفهومها ليشمل الدولة ككلّ.

    وما دامت الحوزات العلمية الفقهية الآن ليست في وارد ممارسة الحكم تطبيقياً، فلها أن تمارسه بالتنظير والنصح والعمل الجادّ والحازم على تكوين دولة الإسلام، وحينذاك، وكما يرى الإمام الشيرازي، تصريحاً وتلميحاً، يصبح من الممكن إنجاح عملية التغيير وتحديد طبيعة علاقة الدولة الإسلامية مع دول العالم المختلفة وتتحدد تلك المواقف والعلاقات من قبل الحكومة أو السلطة أو الدولة ككل بما فيها من توجّهات أو رأي عام قد تمثله مؤسسات معينة دستورياً، أو تمثله حكومة معبرة عن ذلك الرأي العام. فتتم عمليات التبادل الديبلوماسي، ورصد المصلحة العامة للدولة في إطار العلاقات الدولية، ويجب أن تكون الأسس واضحة، والقناعات المتوفرة باختيار أفضل الروابط لتحقيق المصالح العامة للدولة، بشكل ثنائي، أو بضمن الأطر المعترف بها دولياً كمنظمة الأمم المتحدة والمؤسسات والهيئات المنبثقة منها، وبما يحقق السلام والتعاون المتكافئ.

    أما النشاطات السياسية الداخلية، والعمليات التي يتبادل القيام بها كل من السلطة كسلطة، أو العلماء كعلماء فقهاء قادة للرأي، أو بحكم كونهم يسيّرون الدولة فعلاً على وفق الأسس الإسلامية، ويقوم المواطنون فيها بواجباتهم كأفراد ومصالح وعلاقات عمل وانتاج، فهي أكثر صعوبة من تحديد التوجهات السياسية الخارجية.

    ففي الداخل هناك وضع جغرافي، وسكاني، وتاريخي، وعادات وتقاليد، ومستوى اجتماعي عام، وعلاقات ومصالح، ولغات ومذاهب وأديان، ومكوّنات تراثية ومعاصرة، وأحزاب أخرى وأفكار، وصراعات أو تكامل، إضافة إلى الأسس الفكرية النظرية للسلطة القائمة، سواء كانت سلطة متغرّبة أم سلطة يديرها الفقهاء المؤهّلون، ومدى ملاءمتها للواقع الذي يعيشه عموم الناس بفئاتهم كافة.. إلى غير ذلك من تفاعلات تفرضها الأوضاع الحضارية أو المشاكل الداخلية والخارجية، والأهواء والمصالح والطموحات التي لابدّ ان تؤثر على الوضع الداخلي في الجوانب القابلة للتأثر كالوضع النفسي والاجتماعي والأخلاقي وغيره.

    كل حكومة في العالم، وكل سلطة، تجد نفسها ـ حين تستلم الحكم ـ أمام مجموعة كبيرة من الواجبات التي عليها أن تقوم بها، بل وتصفية آثار المرحلة السابقة على قيامها، والتي قد تصل إلى ذروة الاحتدام فالانفجار إذا لم تكن تلك الحكومة لها رؤية وفكر يقودان عملية التغيير وتشييد أركان الدولة.

    وكلما كان هذا الفكر حياً ومنسجماً مع ما يحتاجه الناس، ويوفّر لهم كرامتهم وحريتهم ويتيح لهم المشاركة في الحكم، ولهم رأيهم في المناقشة والتوجيه والإرشاد، كانت الحكومة التي لديها ذلك الفكر أقرب إلى قلوبهم وكانوا أحرص في الدفاع عنها وأكثر إخلاصاً في تنفيذ أوامرها وتطبيق قوانينها.

    ونشاهد في كثير من (الثورات) و (الانقلابات) أن الحكام الجدد يأتون إلى الحكم ويستولون عليه، ثم يصبحون حائرين في كيفية إدارة الاجتماع والاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية، فماذا يفعلون؟ لا يجدون أمامهم إلا النموذج الغربي، وهو النموذج الذي عرّفهم به أولئك الذين وضعوهم في سدة الحكم، فيطبقون ذلك على الناس ويزيدون من مشاكلهم ومآسيهم ومعاناتهم، ويمعنون في استعبادهم وإذلالهم، وخير دليل على ذلك مقارنة أوضاع مصر قبل 1952 وما بعدها، والعراق قبل 1958 وما بعدها، حيث إنها أصبحت محتاجة لكلّ شيء من المأكل والملبس.

    وقد أشرنا من قبل إلى فشل الفكر الماركسي في تحقيق أهدافه لأن تلك الأهداف لم تكن واقعية بل كانت خيالية بعيدة عن طبيعة النفس البشرية، كما أنّ الماركسية تمثل خلاصة المذاهب الفاشلة التي ظهرت في التاريخ كالمزدكية والمانوية والاباحية وغيرها، فلما كانت أسسها فاشلة فكيف يمكن أن تكون هي ناجحة؟! خاصة وأنها أضافت إلى تلك الأسس الفاشلة والمتهاوية على عروشها، الكثير من القتل والإرهاب وزرع الخوف في نفوس الناس، فانتهزوا أول فرصة متاحة لتقويض ذلك الفكر.

    وبذلك نرى أن علم السياسة الغربي، والذي يمكن أن يستفاد منه كعلم، لا كأساس للبناء النظري للفكر السياسي في الإسلام، يبدأ بتكوين جملة من (الآراء والنظرات) تتحوّل إلى (نظرية) تنطلق من الواقع، بحسب فهم متميّز يقوم به أحد العلماء أو الباحثين، ثم إنّ تلك النظرية تعود إلى الواقع عبر الممارسة، لتطوره وتتطور به في علاقة جدلية حتى تصل إلى (العلم السياسي) بمستوياته المتعددة وميادينه المتشعبة.

    ولهذا نجد أن علماء السياسة ومنظريها على حد سواء لم يستطيعوا أن يصلوا إلى تقديم فهم متكامل للعملية السياسية إلا قبل أقل من نصف قرن بملاحظة المتغيرات التي طرأت على العالم، بشعوبه وحكوماته، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بينما كان الإسلام يجتاز خمسة عشر قرناً من تراكم الخبرة في إقامة الدولة.

    بدأ الغرب في أعقاب الحرب العالمية الثانية بتأسيس لجنة من أبرز الخبراء في العالم(1) لصياغة تعريف السياسة وتحديدها، ورسم معالمها وحدودها، لأنهم حتى ذلك الحين لم يكونوا قد عرفوا شيئاً يُعتدّ به في هذا المجال.

    وقد وصلت هذه اللجنة إلى تحديد أربعة موضوعات حددت في إطارها العمليات السياسية. وهذه الموضوعات الأربعة هي:

    1 ـ النظرية السياسية: اعتبر أولئك الخبراء موضوع أو ميدان النظرية السياسية أوسع الميادين لعلم السياسة. فوجب على علماء السياسة الذين يتخصّصون في هذا الميدان أن يقوموا بمهمة مزدوجة، الأولى هي التعريف والتعميم وصياغة المفاهيم والمصطلحات التي يرون أن التفكير السياسي يجب أن يدور حولها، والثانية هي اكتشاف طبيعة الاجتماع ووظائفه وأغراضه، ويتعيّن في هذا الصدد، عندهم، تجميع كل التراث الذي يضمّ الأفكار والمذاهب والآيديولوجيات التي تشكّل إطار السياسة كلها. ومن ثمّ اكتشاف قواعد التحكم في النشاط والتطور السياسي. ومن هذا نتبين أن أولئك الخبراء، لم ينظروا إلى السياسة إلا باعتبارها نشاطاً تقوم به الدولة لا الأفراد، على حين أدخل سماحة الإمام الشيرازي تطويراً هائلاً على مفهوم السياسة والأطراف التي يجب أن تقوم بها، حين فتح سماحته الأبواب للمجتمع الواعي بحقّ ممارسة العمل السياسي، بناء على أسس الإسلام.

    كما نلاحظ أنّ عبارة (النظرية السياسية) التي وضعتها تلك اللجنة، شكّلت عندهم قاعدة أساسية وهي قاعدة الحكم الذي من حقه وحده، حسب نظريتهم، أن يضع قاعدة الحكم والموقف من الحريات وحقوق الإنسان، ووظائف الدولة.

    وبحسب رؤية الإمام الشيرازي فإن هذا التحديد خطأ، لأنّ الناس هم أيضاً لهم حق تحديد الرأي في الأمور التي تعنيهم، والسياسة في أولها، كما يجب أن تكون لهم الحرية في المحاورة والنقاش والاتيان بالبرهان من غير حجر على الأفكار والآراء، وليست هذه الحكومات المعروفة اليوم معصومة عن الخطأ، كما أنّ تصوراتها ليست آيات منزلة من الله، ولذا يجب أن يكون للناس الحق في القبول أو الرفض.

    وبذهاب خبراء اليونسكو إلى تعميم أوجه الدراسة التي يجب ان تعتمد عليها النظرية وشمولها للمكونات التراثية والمعاصرة، والآيديولوجيات ذات التأثير العام أو الخاص، بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الحكومة فإنهم أخذوا صفة العمومية أو التعميم في إضفاء المعنى السياسي على أوجه التعامل الخارجي والداخلي. وباعتبار انهم طلبوا من التنظير السياسي إلاّ يكتفي بدراسة الواقع كواقع بل ان يتجاوزه إلى دراسة الاحتمالات المستقبلية الناتجة من تطبيق النظرية على واقع ما، فإنهم اعترفوا بأن دراساتهم ناقصة، وأنهم يحوّلون الشعوب إلى حقول تجارب، لأن مسألة الاحتمالات لا يمكن تطبيقها على الشعوب.

    كما حددت لجنة الخبراء أربعة أسئلة على المنظّر السياسيّ اكتشاف إجاباتها، وتلك الأسئلة هي:

    * ما هدف الدولة؟

    * لماذا يطيع المواطنون الدولة ويعملون في خدمتها؟

    * ما أهم وظائف الدولة؟

    * ما هي حقوق الأفراد وواجباتهم في ظل الدولة؟

    كما قرروا أن النظرية السياسية يجب أن تقام على أساس دراسة التاريخ وحدود الأخلاق والتقاليد والعادات، وارتباط ذلك بالأخلاق السياسية، وخدمة الاجتماع بشكل عامّ.

    وجميع هذه التقريرات نراها جزءاً من ذات المنهج الإسلامي المبنيّ منذ أربعة عشر قرناً، على ما يلوح في مؤلفات الإمام الشيرازي، فلا نستغرب إذا تبيّنّا أن كثيراً من علماء السياسة المعاصرين قد أفادوا من دراسات الإمام الشيرازي ورؤاه إفادات كثيرة، على ما سنذكره في موضعه.

    2 ـ العلاقات الدولية: اختلف خبراء اليونسكو أنفسهم في تعريفها، فمرة يقولون الشؤون الدولية (International Affairs) ومرة يقولون الشؤون العالمية (World Affairs) وثالثة يقولون الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) وأخيراً يصلون إلى أن يقولوا السياسة الدولية (International Politics) وكل هذا تخليط لا يرضاه العلم السياسي. ففي كل علم يجب أن تكون المصطلحات محددة بدقة. ولنأخذ مثالاً على ذلك الفرق بين (النظام الدولي) و (النظام العالمي) فهناك خلاف في تحديد معنى كل منهما، لكنّ ما نراه في هذا المجال ان مفهوم (العولمة) أو (النظام العالمي) يتجاوز الحكومات والمجتمعات ويقدم لها أنموذجاً واحداً هو الذي يراه أصحابه بأنه جدير أن يسيطر على العالم ويقوده. أما (النظام الدولي) فيعني احترام خصوصيات كل دولة وكل مجتمع ويتم التعاون بين الجميع، وهذا ما نصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة.

    ولذلك فإن العلاقات الدولية هي التي تتبنى معالجة المسائل التي تطفو على المسرح السياسي العالمي، ولا تلتفت إلى أي مشاكل تنجم بين شعوب الدول المختلفة، وبذلك نتبيّن أن علم السياسة بمفهومه الغربي يهمل إرادة الشعوب إهمالاً تاماً. وبالرغم من هذا الإهمال يدعي بعض اللاهثين وراء الأنظمة الوضعية، أنها تحقق إنسانية الإنسان، وللرأي العام سيطرته على الدولة وممارساتها وأنه هو الموجّه لها. وليس الأمر كذلك بكلّ تأكيد، بحسب ما نتبيّنه في تقرير خبراء اليونسكو، في هذه النقطة بالذات، وفي كثير من الدراسات السياسية، وما ينطوي منها تحت (العلم السياسي) أيضاً، وفي الممارسات التي يعيش العالم في خضمّها، في هذه الأيام، بخاصّة.

    ونظراً لتشعب العلاقات الدولية وبروز الخلافات بين الحكومات، وخاصة بقيام أنظمة حكم ذات آيديولوجيات متناقضة، ورغبة في كبح جماح الحرب والعدوان بين تلك الأنظمة التي تجمعت، ولفترة سبعين عاماً، في معسكرين كبيرين، في الغرب والشرق، فقد قسّمت لجنة الخبراء تلك العلاقات إلى قسمين:

    أ ـ القانون الدولي: يهتم بدراسة القواعد القانونية وممارسة العلاقات الدولية والسياسات الدولية، وينظر في الفروق في القوة والتأثير بين الدول.

    ب ـ السياسات الدولية: وتهتم بدراسة الأنظمة وطبيعة العلاقات بين الدول ومحاولة التوفيق بينها وترتيب مصالحها بالاتفاق فيما بينها كي يتجنّب العالم حروباً وكوارث فظيعة.

    ولكن الحقيقة أن العالم يعيش حروباً متواصلة بما بين إقليمية ودولية فكأنها حروب عالمية مقسّمة على بقاع الأرض، فبذلك تكون هذه التقسيمات مجرد شكلية لا أكثر.

    وبشكل عام فإن العلاقات الدولية بمؤسساتها الموجودة الآن، ولو ظاهريّاً، والتي كانت محكومة بقوة القانون الدولي، بحسب ما يُشاع، والمنظمات الدولية المتعددة، تهدف، في ظاهر الإعلان والإعلام، إلى تحقيق الاستقرار والسلام في العالم، باكتشاف عوامل الصراع، وعوامل التقارب، بما يحقق التكامل (العالمي) في السير باتجاه عالم أفضل، أو هذا على الأقلّ ما يجب أن يكون، من وجهة نظر أولئك الخبراء.

    3 ـ دراسة الحكومات: وذلك بالارتكاز على الخبرات السياسية والأنظمة السياسة، وأنماط السلوك والعمليات التي تظهر مصاحبة للحكومات، بمختلف نماذجها.

    وهذا ميدان متّسع جداً عند أولئك الخبراء لأنه غير محدّد بفكر معين ولا بنظرية معيّنة، فتصبح تلك الدراسة لغواً فارغاً، لأن الدراسة يجب أن تقام على أسس معلومة ومقنّنة وعلمية، لا أن يُفتح الباب لأي ديكتاتور أن يعمل انقلاباً ويشكّل حكومة ليس لها أصل في القانون، ثم تعطيها لجنة الخبراء حق البقاء!

    ولذلك فينبغي على علم السياسة أن يثبّت القواعد الكلية التي يجب أن تقام عليها الدولة، حسب حاجة الاجتماع والاقتصاد وتحقيق العدالة.

    وقد يقال انّ هذا الكلام مجرد رؤية، وحتى لو كانت كذلك إلا أنها مبنية على شواهد عملية حيّة، وهي بذلك تتحول إلى دراسة بإمكانها ان تصل إلى مستوى التنظير للواقع باعتبار التجربة والطموح المستقبلي، لشعوب العالم جميعاً، وعدم الاكتفاء بالاعتراف بالأنظمة القائمة على الإرهاب والتخويف والسجون والمعتقلات.

    وهذه الرؤية إنّما استخلصناها من دراسات الإمام الشيرازي، على ما سيأتي توضيحه، وهي التي اطلع عليها علماء الغرب أنفسهم، بعد أن شعروا بالخلل العلمي في تقرير خبراء اليونسكو المشار إليه.

    ويمكن تلمّس شواهد تطبيق هذه التأثيرات في الاهتمام الأكاديمي الغربي، الحديث، نسبياً، بمسألة السياسة في الإسلام، غير أنّ السعي وراء فهم النظريّة السياسية للإسلام يجب أن ينبني على استخلاصات من مجمل المسيرة الإسلامية، نظرياً وعملياً، عبر التاريخ، والوقوف أمام تجاربها الحيّة والثرّة والغنيّة بالتجارب والعبر واستخلاص الدروس، حتى لو لم يُتح للنظريّة الإسلامية مجال واسع للتطبيق.

    هذا من جهة..

    ومن جهة أخرى فإن الموضوعات التقليدية لهذه الدراسات عادة تنصرف إلى:

    * القيادة السياسية.

    * الوعي السياسي.

    * التشكيلات الاجتماعية.

    * الرأي العام.

    * التغييرات السياسية.

    * الأمن الاجتماعي وتأثر ذلك بالآيديولوجيا التي تتبناها الحكومة.

    وفي السنوات العشرين الأخيرة، ونتيجة للحرب الباردة، تفرع من هذا الموضوع (دراسة أنظمة الحكم) فرع آخر انضمّ إلى باب من علم السياسة هو (علم السياسة المقارن).

    4 ـ الإدارة العامة: الإدارة العامة فرع من فروع علم السياسة وتهتم بدراسة الجهاز الحكومي بتركيبه الخاص من حيث قياداته المهيمنة عليه ومن مصالح متباينة للضغط على مراكز وضع السياسات واتخاذ القرارات، وهذا يعني تحديد الإطار السياسي والآيديولوجي الذي يسيّر الجهاز الإداري، وبمعنى آخر طريقة الحكومة في القيام بوظائفها.

    ومن هنا فإن الإدارة العامة، عليها ـ وفق هذه الرؤية ـ أن تعنى نظرياً وعملياً، بتحديد الإطار السياسي والاجتماعي الذي يحيط بأداء المهام الرسمية للإدارة الحكومية في الدولة، وكذا المقومات الأساس التي يرتكز عليها النظام الدستوري للدولة، وهو ما عرف في العالم النامي بالشرعية، وما يؤثر في ذلك النظام من قيم وتقاليد وعادات وثقافة حديثة وتراثية.

    وحسب هذه الرؤية أيضاً، فإن الإدارة العامة تبحث في كيفية وضع السياسة العامة للدولة، وطرق الرقابة على عمل الجهاز الحكومي، وماهيّة العلاقة بين الحكومة والمواطنين.

    ومن هنا تظهر مهمة أخرى في دراسة الإدارة العامة، وهي إيجاد العمل لأبناء الاجتماع، والتعرف على أهمية عنصر المشاركة الشعبية في إنجاح برامج الإدارة الحكومية، ومن ثم الحكم على مدى صلاحية هذه الإدارة وكفاءتها في التعبير عن المبادئ وترجمتها إلى عمل جماعي يصل إلى الأهداف المحددة.

    إن هذا التقرير المعتمد عالمياً إلى اليوم، رغم بعض الجوانب الإيجابية التي فيه، هو نوع من محاولة خدّاعة، لأن كل هذا لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من مفهوم العلم السياسي، بحسب الرؤية الإسلامية الذكية التي جسدتها كتابات الإمام الشيرازي. كما أن أولئك الخبراء لم يستطيعوا أن يصلوا إلى تخوم اتساع مفهوم العمل السياسي الإسلامي، كما يتجلّى في كتب سماحة الإمام الشيرازي، الذي لا يحبس السياسة في إطار ممارسة الحكومة، بل على الدولة ككل، حكومة ومواطنين وما بينهما من علاقات.

    وقد قررت دائرة المعارف الكبرى أن السياسة هي معرفة كل ما له علاقة بالحكم في الدولة، أي التطور الداخلي والعلاقات الخارجية، كما أن تلك الكلمة، تطلق على الشؤون والأحداث اليومية، أي أن السياسة هي فن حكم دولة ما وكيفية إدارتها. وتذهب دائرة المعارف البريطانيّة إلى هذا المذهب وتقرر أن السياسة معناها منطلق من الفلسفة، وهي الممارسة لكل النشاطات المتعلقة بالدولة(2). وهذا تدقيق آخر، يتلاءم مع الفكر السياسي الشيرازي، مع وجود فارق جوهري، يتوضّح في أن الإمام الشيرازي لا يفصل بين السياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق، فكل جانب من هذه الجوانب هو أخلاقي قبل أي شيء آخر.

    ونجد في كتابات علماء السياسة الكبار الذين تركوا بصماتهم بوضوح على الوجه السياسي للعالم المعاصر أن الأهمية الأولى في علم السياسة الاهتمام بالتنظيم الداخلي للدولة. من حيث إن علم السياسة هو دراسة كل ما يتصل بحكومة الجماعات أي العلاقة القائمة بين الحاكمين والمحكومين، أي أنه دراسة لكل ما يتصل بتدرج السلطة داخل الجماعة، حسب تعبير العالم السياسي الأمريكي (3) (Milbrath).

    وهذه الرؤية نجدها في الفكر الإسلامي الذي يقرّر أن السياسة هي فن وكيفية إدارة الدولة وكل ما يتعلق بالشؤون العامة. ومن هنا يركّز الإمام الشيرازي على دور الناس في الدولة أي أن تكون الحكومة مشكلة في الأساس من المواطنين ذوي الكفاءة والمتمتعين بالوعي السياسي، وحينذاك يشكل كل واحد منهم شخصية سياسية، مهما كان موضعه في الإدارة العامة للحكومة، أو بين فئات الشعب، لأنه بصورة من الصور سيكون ذا مساس وعلاقة على نحو ما بالقضية الاجتماعية العامة وتطوير الدولة. وهذه المسألة نجدها بوضوح تام في بحوث الإمام الشيرازي، وبما يزيد عليها من حقوق مترتّبة للمواطن تجاه المجتمع، وللمجتمع تجاه كل عضو فيه، وللمجموع تجاه الحكومة التي هي أساساً مكوّنة من مواطنين يُفترَض فيهم الصلاح والخير، يقول الإمام الشيرازي:

    (ليس للحاكم حق الديكتاتورية إطلاقاً، وكل حاكم يستبدّ يُعزل عن منصبه في نظر الإسلام تلقائياً، لأن من شرط الحاكم العدالة، والاستبداد الذي معناه التصرّف خارج النطاق الإسلامي، أو خارج نطاق رضا الأمة في تصرف الحاكم في شؤونها الشخصية، ظلم مُسقط له عن العدالة)(4).

    وعلى هذا فإن الإمام الشيرازي يتجاوز بنظرته الحاذقة هذه الرؤى الغربية. مع أن بعضها مستوحىً من كتابات سماحته، ليصل إلى تحديد أكثر علمية وموضوعيّة لمصطلح (العلم السياسي). حيث إنّ هؤلاء العلماء الغربيين قد استفادوا من تلك النظريات بما ينسجم مع قناعاتهم المادية، وغالباً ما يجردون النظريات الإسلامية من توجهها الأخلاقي ثم ينسبونها إلى أنفسهم، ليعود المتأثرون بهم في بلداننا الإسلامية ليستوردوها من جديد باعتبارها آيات بينات لا تقبل الخطأ، حتى إذا تراجع الغربيون أنفسهم عن بعض ما في آرائهم من خطأ، وقع هؤلاء في حيرة من أمرهم.

    ويتطرّق الإمام الشيرازي إلى هذه الظاهرة من خلال رفضه للتزييفات التي أدخلها الغربيون على العلم السياسي الحقيقي. فبعد أن يعرض سماحته بالمناقشة لتعريفات العلماء الغربيين لذلك العلم، وتقسيماتهم له، يقرر:

    (ومما تقدّم يظهر نقص (علم السياسة) عند من يعرّفه بأن السياسة علم الدولة، اللهم إلا إذا أراد السعة في معنى تعريفه ذلك، حتى يشمل مثل الرأي العام والفئات الضاغطة، وما أشبه. ولكنّ مثل هذا المعرّف للسياسة بذلك، إنما يشرح السياسة، بما يخصّ الدولة فقط. فيكون حاله حال من يخصّص علم الاقتصاد بالنقد، مثلاً، أو علم البلاغة بالبيان فقد.

    نعم، لا شكّ أن أهمّ فروع علم السياسة (علم الدولة) ومن هذا المنطلق انطلق اليونانيون والمسيحيون والمسلمون في سالف الزمان في محور دراساتهم للسياسة.

    1 ـ فالفلاسفة اليونانيون الذين تعرّضوا للسياسة، كان محور كلامهم (الدولة المثلى) ولا يخفى أنّ تخطئة بعضٍ لهم، بأنهم مثاليون لا واقعيّون، غير جدير بالاعتناء، إذ هم أرادوا التخطيط لسعادة الإنسان، فمهما وصل الإنسان إلى ذلك المخطط كان أقرب إلى السعادة، مثالهم في ذلك مثال كل عالم وباحث يهدف أخير المطاف، وصل الإنسان إليه بسرعة أو بطء.

    2 ـ والمسيحيون تعرّضوا للعلاقة بين الدولة والكنيسة انطلاقاً مما أثر عنهم (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر).

    3 ـ والمسلمون انطلقوا من فكرة الدولة الشرعية والخلافة الإلهية.

    فالمحور عند الأولين (الإنسان) وعند المسيحيين (الله) وعند المسلمين (كلاهما) حتى جاء الساسة المحدثون، فنظروا إلى (السياسة) بما انها سياسة، مبتدئة بنشأة الدولة وسياستها، وهذا وإن كان خطأ عند المسلمين، كالرأي الأول والثاني، إلا أنّ لكلّ وجهة نظر منطلقة من خلفياته الفكرية)(5).

    وبهذا الاعتبار، فإن الفكر السياسي للإمام الشيرازي يرسّخ قاعدة علميّة فائقة الأهمية، وهي وجوب إخضاع علم السياسة لفكرة الدولة الشرعية والخلافة الإلهية، حيث منهما تنبثق النشاطات في كل ميادين الحياة، في السياسة والاجتماع والاقتصاد وغيرها.

    وبناءً على ذلك فإن كل منهج جدير بصفة العلمية يجب أن يرتكز على أربع دعائم، يحدّدها الإمام الشيرازي في مقدمته لكتاب السياسة، وهي مصادر التشريع المتمثلة في الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة، والإجماع، والعقل. غير أن سماحة الإمام يأخذ منها، في هذا الموضع ما يتعلّق بالمسألة السياسية، فيقرر:

    (لقد كان من الجدير أن يكون (للفقه السياسي) باب مستقلّ في الفقه بعد أن كانت مسائل مشتتة في أبواب الجهاد، والمكاسب، والقضاء والشهادات، والحدود، والقصاص، والديات، وإحياء الموات، وما أشبه ذلك.

    إن الفقهاء قلّما ألّفوا كتاباً خاصّاً في هذا الشأن وما يتبعه بخصوصه، أمثال (قاطعة اللجاج) و (تنبيه الأمة) و (الحكومة الإسلامية) وغيرها، وذلك لاكتفائهم بما دوّنوه في تلك الكتب المذكورة من المسائل المشتتة، مما استنبطوه من الكتاب العزيز، حيث قال سبحانه: (إني جاعل في الأرض خليفة)(6) والسنّة المطهرة، حيث ورد (اللهم ارحم خلفائي)(7). والإجماع في كثير من مسائلها كما لا يخفى على من راجع كتب الفقه الاستدلالية. والعقل: حيث إنّه دلّ على وجوب تنظيم أمر البشر عامّة، والأمة الإسلامية خاصّة، وقبح ترك الناس فوضى لا نظام لهم، أو لهم نظام غير صحيح، وإذ ثبت قبح الترك بلا راعٍ، ووجوب تشكيل الحكومة الرشيدة عقلاً، ثبت ذلك شرعاً، للتلازم في القاعدة المعروفة (كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع) إذا كان الأمر في سلسلة العلل، كما حقّق في الأصول، مما يقتضي التدوين المستقلّ لأنّه أسهل إلى التناول.

    لكنّ الفقهاء، اكتفوا بما ذكروه في تلك الكتب الفقهية، وبما نقّحوه في مسألة الإمامة والخلافة في الكتب الأصوليّة، فجزاهم الله خير جزاء المحسنين.

    وقد كتبتُ في سالف الزمان كتاب (الحكم في الإسلام) على الأسلوب الفقهي، ثم رأيت أن أكتب كتاباً أوسع ليشمل جملة من المسائل المرتبطة بالحكم بصورة أشمل، لعلّ الله سبحانه يجعله مقدمة لإقامة حكم إسلامي زاهر يضمّ تحت أجنحته ألف مليون مسلم، حيث فرّقت الأهواء من الداخل والكفار من الخارج بين صفوف المسلمين، فجعلوا منهم حكومات متشتتة، ومتحاربة أحياناً، وذلك خلاف كونهم أمة واحدة)(Cool.

    فالنظر إلى علم السياسة، بحسب تحديدات الإمام الشيرازي وكثير من فلاسفة السياسة المعاصرين، يشمل، إذن، الداخل والخارج لأية دولة من دول العالم، ولأيّ شعب من الشعوب. ولذا فقد تعددت مناهجه، لتشمل المجتمع والتاريخ والقانون والأخلاق، وليخضع كل جانب إلى مناهجه المتبعة في فهمه وتحليله.

    (نعم لقد تطورت الحكومات، حسب تطوّر الاحتياجات كما تطوّر الاقتصاد حسب تطوّر الآلة والاحتياج، وسعة أبعاد الإنسان، وقد جعل الإسلام الأسس الكلية الكفيلة لاستيعاب كل المسائل المحتاج إليها مهما تطورت الأوضاع. أما الإنسان منذ أن وجد على الأرض (ولا يُعلم قبل كم وُجد ولعله قبل مليارات من السنوات، حيث قد عُثر على بقايا إنسان كان يعيش قبل سبعين مليون سنة) فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقّت عليه الضلالة، حيث كان الأول يتبع قوانين السماء في كل شيء والتي منها قوانين الحكم. وكان الثاني يضع بنفسه القوانين أو يتبع الجاهلين، حيث كان يقول: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)(9) ولم يكن فرق من جهة أصل أسس الحكم، سواء كانوا يعيشون كجماعات صغيرة وفي الخيام كما هو المشاهد الآن في بعض القبائل وأهل الأرياف والقرى الصغيرة حتى التي تحتوي على مائة إنسان، أو ما أشبه، أو كجماعات كبيرة، مثل الآلاف، أو الملايين، كما هو الحال في المدن الكبار.

    نعم، لا شكّ أن الحكومة في البدائيين لا مؤسسات لها، بينما الحكومة في المدن والتجمعات الكبيرة، لها مؤسسات، فهي في القسم الثاني عبارة عن مجموعة من مؤسسات اجتماعية تنشأ لتأمين الروابط وحفظ نظم المجتمع، أولاً، ولأجل تقديم المجتمع، ثانياً، وعليه فشأن الحكومة:

    1 ـ إرساء النظام.

    2 ـ وحفظ العدل.

    3 - وتوفير الرفاه للجميع.

    4 ـ والتقديم بالمجتمع إلى الأمام.

    نعم، في التجمعات الصغيرة، مما تسمّى بالبدائية، يكون لشيخ القبيلة ونحوه صفة الأمر والنهي والحلّ والفصل والوقوف أمام العدوان، وإذا حدث حادث من سيل أو حريق أو عدوّ أو ما أشبه، كان الالتفاف حوله أكثر، وتكون كلمته أقرب إلى السماع، ووضع لها ضوابط وقتية، ثم لما يذهب الخوف ويندفع الشر رجع أفراد الأسرة والقبيلة إلى حالتهم السابقة(10).

    وعلى العموم فإن الإمام الشيرازي (ويوافقه في ذلك مشاهير علماء السياسة المعاصرون(11) يلخّص الاتجاهات العامة لدراسة علم السياسة بما يلي:

    1ـ الاتجاه النفسي:

    يقرر سماحته أهمية هذا الاتجاه بقوله:

    (ومن هنا يظهر وجه احتياج السياسة إلى علم النفس، حيث إنّ مهمة السياسة (الإدارة) والإدارة لا تكون إلا على البشر، ولأجل البشر. وبدون أن يتعرّف السياسي على النفسيات للأفراد والفئات، كيف يتمكن من الإدارة؟ فإنّ حجر الزاوية في كل شيء إنساني هو فرد، وفرد الإنسان جسد ونفس وروح، فالجسد هذا المشاهد السفلي، والروح نفحة قدسية، قال سبحانه: (ونفخت فيه من روحي)(12) همّها السمو بالإنسان، والنفس شيء بين ذين الشيئين يجرها الجسد تارة إلى السفل، وتجرّها الروح تارة إلى العلوّ، لذا نشاهد الازدواجية في الإنسان)(13).

    إنّ هذه الرؤية السليمة للنفسية الإنسانية، تضع علامات على طريق إدارة الدولة، وهي الإدارة المعتمدة على الإنسان فلابد من فهم نفسيته على ذلك الأساس العلمي، لا أساس خيالات فرويد وغيره من الذين هوّدوا الفكر الحديث، بحسب اعترافات علماء النفس والاجتماع أنفسهم، كما شرح ذلك مايلز رايت (M. Wright) وغيره(14).

    2 ـ الاتجاه الفلسفي:

    وهو يدرس العادات والتقاليد والأخلاقيات والأديان التي تحكم النشاطات السياسية، ثم مدى استطاعة الحكومة التعامل مع هذه المسائل، ومدى قدرتها على استثمار ذلك في تحقيق الأهداف الإسلامية من وراء تأسيس الدولة.

    وفي هذا المضمار يناقش سماحة الإمام الشيرازي أولئك الذين يُنكرون المنحى العلمي، أي الفلسفي، للسياسة، قائلاً:

    (وقد يُتوهّم أن السياسة ليست من الإسلام، وأن العالم الديني هو العارف بالتفسير والتاريخ الإسلامي والفقه وما أشبه، وكل هذه الأوهام، لا أساس لها من الصحة، فالسياسة علم كسائر العلوم، ولعلّ هذا التوهّم نشأ من أنّ البريطانيين قلّما يُطلقون (العلم) على السياسة، وكثير من بلاد الشرق الأوسط كانت خاضعة للاستعمار البريطاني، وسرت إليهم. ولذا زعم جمعٌ من المثقفين في هذه البلاد تبعاً لهم، أنّ السياسة ليست علماً، وماذا هو العلم؟ إنّ العلم هو مجموعة كشوف للحقائق الكونيّة، سواء كانت حقائق خارجية أو حقائق انتزاعية أو حقائق اعتبارية. والفرق بين الأخيرين أن الأمور الانتزاعية له تقرر في ظرف ما، سواء كان إنسان أو عين أو لم يكن أحدهما، أمثال انّ (الأربعة زوج) و (الكل يساوي أجزاءه) إلى غير ذلك، حيث إنّه إذا فرض عدم وجود مفكّر كانت الأربعة زوجاً، والكل يساوي أجزاءه، وكذلك إذا لم يكن مخلوق أصلاً، لم تخرج هاتان الحقيقتان عن واقعهما، فالأربعة كلّما وُجدت فهي زوج.. وهكذا..

    أما الأمور الاعتبارية فهي التي لا حقيقة لها في عالم ما، لا عالم الخارج والعين ولا عالم الانتزاع، بل وجودها باعتبار المعتبر حتى إذا لم يكن معتبر لم تكن. مثل كون الدينار له اعتبار المالية فإنّ الدينار الورق لا يساوي فلساً واحداً، وإذا كان بدون اعتبار من بيده الاعتبار لا يُعطى في قبال مائة حتى قرص خبز واحد، بينما إذا اعتبره المعتبر كان كل دينار في قبال مائة خبز مثلاً.

    وإذا تحقّق أن العلم عبارة عن مجموعة كشوف لكيفية الإدارة العامة ولكيفية الارتباطات وانها عبارة عن مجموعة أغصان علوم، كعلم التاريخ والاجتماع والاقتصاد وغيره)(15).

    وبعبارة أخرى فإن هذا النهج يحاول تشخيص أفضل حكومة للمجتمع البشري، وفق القواعد العلمية في مفهوم الأفضلية التي تعني الاقتراب إلى أقصى حد ممكن من مفهوم العدالة والانسجام مع القيم السائدة؛ ونعني بذلك أن لا يكون الانسجام على طريق الجمود والخمود، بل على طريق التوقّد والتألّق واستيعاب الحاضر والمستقبل، على أسس الماضي العتيد، أو على أزهى صوره وأنقى عناصره. لأننا نعرف أن التاريخ تكتبه الحكومات غالباً، أما تاريخ الناس فمهمل في غالب الأحيان، كما أنّ الكثير المنقول إلينا من صور التاريخ، لا يسّر النظر العلمي الموضوعي، ففيه من التزيّد والظلم الشيء الكثير الذي يدعو إلى الأسى حقاً، ولذا فإن بناء الحاضر والمستقبل على أسس من القيم والتقاليد الموروثة، يجب أن يكون مقيّداً بالنصاعة والطهارة والنقاء، وهو ما نجده مجسّداً في فكر الإمام الشيرازي، على ما سيُذكر ذلك في مواضعه من البحث.

    وقد يكون الفيلسوف السياسي الغربي المعاصر منطلقاً من مفاهيم افلاطون في مدينته الفاضلة، كما قد تكون له منطلقات أخرى، كتلك التي تذهب إلى أن الأخلاق شيء متغير وغير ثابت لأنه محكوم بعلاقات الانتاج والوضع الاقتصادي الذي لابدّ ان يؤثر على أخلاق الاجتماع، بحسب هذه النظرية.

    ومن هنا ينشأ الخلاف أساساً بين ثبوت الأخلاق وتغيّرها.

    فمن المعروف أنّ التهويد الثقافي الذي يطبّق على أبناء الأمة الإسلامية، يذهب إلى الزعم بأنّ الأخلاق (كميات متغيّرة) ولا تصلح معياراً ثابتاً لقياس الحضارة، بحسب تعبير الكاتب الصهيوني (16) (L.Mousee) ونظيره (17) (P.Barale) منطلقين من تحليلات مغرضة لأحداث التاريخ اليهودي بالذات، على ما أكده الكاتب اليهودي، أيضاً (18) (S.Salim). وللأسف فإنّ كتّاباً مسلمين عديدين ذهبوا ذلك المذهب، بالرغم من أنّ جميع الشواهد تدلّل على كذبه وعدم علميّته.

    وقد رأينا ـ مثلاً ـ أن الفكر الماركسي كان في طليعة المبشّرين بتلك النظرية البائسة، ولكن ذلك التبشير قد باء بالخسران والهزيمة. وقد رأينا كيف أن الفلاسفة الماركسيين كانوا يؤكدون، في كل كتاباتهم، ويفرضون على الناس ذلك التأكيد، أن النظام الاشتراكي، الذي سيؤدي ـ كما قرروا ـ إلى الشيوعية، هو أفضل الأنظمة، وأن حكومة الاتحاد السوفيتي وحكومات بقية الدول التابعة للمعسكر الشرقي هي أفضل الحكومات، باعتبارها ـ عندهم ـ منسجمة مع المقولات الماركسية التي وصفوها بالكمال والعلمية وصلاح التطبيق في كل مكان، بالرغم من ادّعائهم بعدم ثبات القيم الأخلاقية... وسرعان ما أثبتت الأحداث الداخلية أنهم كانوا مخطئين، وان الحسم سيكون في النهاية في غير صالح آلاف النظريات والأدبيات التي أرادوها أسساً لا تقبل النقض للفلسفة التاريخية، والجدلية، بل لكل أنشطة الفكر الإنساني، والواقع السياسي. وذلك لأن هذه القضايا ليست معايير أخلاقية أصيلة، بل هي طارئة على الإنسان بفرض السلطة والقهر والقوّة. وسنرى، إن شاء الله، في دراسة قادمة عن الفكر الاجتماعي للإمام الشيرازي إثباتات لهذه الرؤية.

    وبالنظر إلى أن الاتجاه الفلسفي يجمع النظري والعملي فإنه يقدم تأكيداً واضحاً على أن السياسة علم. وبذلك تصبح الأخلاق مما لا غنى عنه في العمل السياسي.

    إن كلّ العمل السياسي يهدف إما إلى المحافظة وإما إلى التغيّر، ولابدّ أن يوجهه في ذلك فكر ما، أو نظرية ما، قد يؤديان إلى الأفضل، كما قد يؤديان إلى الأسوأ. الحالة الأولى تتحقّق حين يعتمد العمل السياسي على فكر سياسي إسلامي متلائم مع الواقع ومع احتياجات الناس، والحالة الثانية تتحقّق حين تتحوّل الشعوب إلى حقول تجارب لأفكار لا تلبّي احتياجات الإنسانيّة.

    على أن الظاهر تماماً في الكتابات العلمية السياسية، حتى الغربية منها، أن هدف العملية السياسية يجب أن ينطلق من معرفة الخير، ويهدف تحقيق الخير لخير الحياة وخير المجتمع بحيث يكون هدف الناس اكتساب معرفة الحياة الصالحة للمجتمع الصالح، فهنا يحقق الاتجاه الفلسفي ذاته إذا توفر له الصدق والأصالة والوضوح في الهدف النبيل.

    وغنيّ عن القول أنّ الفكر السياسي للإمام الشيرازي بانبثاقه من الإسلام، ووعيه بالواقع واحتياجاته، واهتمامه إلى أقصى حدّ بمصلحة البشرية عامّة، لا يمكن ان ينتج عنه، في حالة تطبيقه، إلا عمل سياسي يمتاز بالنضوج التامّ والوعي والنجاح في تحقيق أحلام البشريّة، هذا بحكم ما يراه علماء الغرب أنفسهم من المتخصصين في الفكر السياسي والعمل السياسي، على ما سبق ذكره.

    3 ـ الاتجاه التاريخي:

    للتاريخ، دائماً، حضور في العمل السياسي للدولة، لذلك فإن علم السياسة يستطيع أن يستفيد فائدة كبيرة ومهمة بدراسة التاريخ السياسي لبلد ما، من حيث نشأة نظام الحكم وتطوره وكذا المؤسسات السياسية، والأفكار والعقائد ذات الأثر في العمليات السياسية وفي تكوين الرأي العام، وغير ذلك. ولكن بملاحظة أن التاريخ، في هذا المجال، يجب أن ينظر إليه على أنه علم، بمعنى ضرورة توفر الشروط الموضوعية في الكشف عن الأحداث التاريخية، القديمة والحديثة.

    وعلى هذا الأساس يمكن فهم اهتمام سماحة الإمام الشيرازي بالتاريخ، وعنايته الفائقة بمسألة الإمامة، إذ إنّ هذه المسألة، يترتّب على توضيحها ووضعها في مكانها الملائم من مجريات الحياة، أن يتفهّم الناس أطروحة سماحة الإمام الشيرازي في مسألة علاقة الفقهاء بالدولة، وعلاقتهم بالشورى، وغيرها من مسائل تتبع العناوين العريضة لأمهات المسائل التاريخية التي يستعرضها سماحته في كتبه العديدة، ومنها تقريره بأن السياسي لا يكفيه أن يعرف التاريخ فقط:

    (بل اللازم عليه عرفان مجريات الأحداث والتيارات التي تتفاعل في البلاد، من الخارج، إذ كل بلد مهما كان منعزلاً عن العالم بالستار الحديدي، كبلاد الشيوعيين، مثلاً، لابد له من الفعل والانفعال في سائر بلاد العالم، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وغيرها، فإذا لم يعرف السياسي أحوال العالم المعاصر لا يتمكن فهم ما يجري في بلاده. وهذا نوع من التاريخ أيضاً (حسب رؤية الفكر السياسي الشيرازي) فإنّ الزمان سيّال يستوعب الكلّ، وينقضي عن الكل، وما يخفى في باطنه يسمى تاريخاً، فإنّ كل لحظة سابقة على الحال تاريخ، سواء لوحظ بالنسبة إلى بلد السياسي أو بالنسبة إلى سائر البلاد.

    والتاريخ الذي يجب أن يعرفه السياسي، بعضه أهم من بعض، فالتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي أهم من غيرها، كما أنّ التاريخ السياسي بصورة أعمّ لا يغني عن معرفة التاريخ الدبلوماسي، وتاريخ الروابط بين الأمم)(19).

    ومن أجل الإجابة على سؤال: هل هناك قانون تاريخي صالح للتنبؤ المستقبلي، وهو الأمر المهم في معرفة التاريخ؟ يقول سماحته:

    (إن التاريخ الذي يجب على السياسي معرفته يجب أن يكون استيعابياً، تصاعدياً، وكلاهما فيه قدر كبير من الصعوبة، إذ الاستيعابي بحاجة إلى معرفة كدس كبير من التاريخ عمودياً، أي بامتداد الزمن، وأفقياً، أي بسعة الأمم والمكان. مثلاً: من يريد إعادة حكم الإسلام وتوحيد المسلمين تحت حكومة واحدة كما أمر الإسلام، بحاجة إلى معرفة التاريخ منذ ميلاد المسيح عليه السلام، عمودياً، كما أنّه بحاجة إلى معرفة كل الأمم والأمكنة التي تفاعلت بعضها في بعض منذ عشرين قرناً، أفقياً، وحيث إنّ ذلك لا يتسنّى لإنسان واحد، يحتاج إلى الاعتماد على جماعات تخصّص كل واحدة في قطعة من التاريخ، قطعة زمانية أو مكانية. ومن الواضح أن القطعة لا تكون حينئذ متفاعلة، حتى تعطي وحدة شاملة هي مهمة السياسي، فاللازم أن يعتمد السياسي حينئذ على ذكائه في استنتاج الوحدة من تلك القطع المتعددة، وإلا لم يعرف الروح العامّة للتاريخ.

    أما التصاعدي (يواصل سماحة الإمام تحليلاته للرؤى التاريخية وأثرها في العلم السياسي ومستقبل العالم (فلأنّ الاستنتاجات عن الأحداث تختلف كلّما تقدّم الزمان وظهرت معالم الحق أكثر فأكثر، فمثلاً قد ينظر التاريخ إلى هارون كأمير المؤمنين، ثم كملك عادل، ثم كملك عادي، ثم كديكتاتور سفّاك فاجر، فإنّه كلّما جلى التاريخ ظهرت الحقائق أكثر فأكثر، ومن المعلوم أن التاريخ الحقيقي هو المؤثّر لا التاريخ المزيّف)(20).

    والحقيقة أنّ هذا التنظير يقدّم للعالم رؤية علمية لدور التاريخ في العمل السياسي، فعلماء الغرب يعتقدون أن التاريخ علم، ولكنهم لا يملكون منهجاً لتبيّن الصحيح فيه من المزيّف لذلك فإنّهم يختلفون جداً في النظر إليه وفي كيفية الاستفادة منه، على ما أوضحه بكل جلاء المؤرخ المعروف سيدني أولمر (21) (S.Ulmar) وغراهام والاس (22) (G.Wallas) الذي يعدّ أشهر أساتذة التاريخ السياسي في بريطانيا.

    ويكفي في إسناد صفة العلم إلى أيّ موضوع أن يدرسه الإنسان مع توخّي الحقيقة، وأن يكون مبنياً على فهم ذكي في البحث عن كل ما يتصل به من الحقائق، وأن يؤسس على حكم ناقد اطّرح منه هوى النفس وكل افتراض سابق، وأن يكون قد ردّ بقدر ما يسمح مضمونه إلى مرتكزاته الأولى: التصنيف، والتبويب، والتقنين.

    فإذا تقرر ذلك فليس ثمة مسوّغ لأن نتعجل إسقاط التاريخ أو أي موضوع آخر من عداد العلوم.

    ونرى أنّ من ألزم اللوازم للفقيه، والقائد السياسي، والحاكم، والمفكر، أن يتعرّف على أحداث التاريخ، وقوانين حركته، ومبدأ الخلق ومآلهم ومصيرهم. مستفيداً من كل الإرث البشري، عبر ذلك التاريخ الطويل للإنسانية، فكيف إذا كانت مسائل التاريخ المبحوثة مما له علاقة تلازم مع الحاضر بشكل لا يمكن انفصاله وانفصامه؟ ويمكن أن نتعرّف على دور التاريخ اليوم بالتساؤل عن المدى الذي يمكن أن يقطعه الباحث في تحديد الموقف من مسألة اجتهادات الفقهاء ودورهم في الحياة المعاصرة، وكيفية بناء الدولة من وجهة النظر الإسلامية، وترسيخ العلاقات ا

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد أبريل 28, 2024 10:52 am