جعفر عبد الكريم صالح

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

حركة جعفر الخابوري الا سلا ميه


    دراسات وبحوث) ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاعٌ (2)

    جعفر الخابوري
    جعفر الخابوري
    مراقب عام
    مراقب عام


    عدد المساهمات : 475
    تاريخ التسجيل : 11/10/2009
    العمر : 54

    دراسات وبحوث) ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاعٌ (2) Empty دراسات وبحوث) ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاعٌ (2)

    مُساهمة  جعفر الخابوري الثلاثاء مارس 02, 2010 1:07 pm

    دراسات وبحوث) ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاعٌ (2)
    أرسلت في 9-2-1425 هـ بواسطة الإعلامي


    الكلام هنا من أجل أن تتعلم الدنيا شيئاً من الكثير الذي تملكه قيادة الفقيه العادل الكفؤ، ومن الأكثر الأكثر مما تفيض به قيادة الإمام المعصوم من خلفاء الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)بالحق، ومن أجل أن تتعلم الأمة من تُقدّم ووراء من تسير، وأي يد تبايع، ولمن تُسلّمُ أمانةَ دنيا ودين. وأيَّ رجل تختار رائداً وأميناً على ما تملك من مقدُرات ومقدَّرات فيها وجودها الثمين.


    ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاع(2)

    المحور الثاني: القيادة
    الكلام هنا من أجل أن تتعلم الدنيا شيئاً من الكثير الذي تملكه قيادة الفقيه العادل الكفؤ، ومن الأكثر الأكثر مما تفيض به قيادة الإمام المعصوم من خلفاء الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)بالحق، ومن أجل أن تتعلم الأمة من تُقدّم ووراء من تسير، وأي يد تبايع، ولمن تُسلّمُ أمانةَ دنيا ودين. وأيَّ رجل تختار رائداً وأميناً على ما تملك من مقدُرات ومقدَّرات فيها وجودها الثمين.
    والحديث في المورد لا يقصد أنه يكون مستوعباً مستقصياً، ولا يقارب أن يكون كذلك، وأنىّ له لو أراد ؟! ما يطرح الحديث عنه بعد أن من غير استفاضة: المبدئية القياسيَّة الثابتة، والرؤية الموضوعية المتقدمة.
    وفي المقدِّمة يؤكَّد ما هو واضح من أنّ القضايا التي تقف وراء التحركات والثورات أحجام وأوزان، وشأن القيادات هذا الشأن نفسه، وملاءمة القيادة وعدم ملاءمتها لا بد فيه من قياسها إلى القضيَّة التي ترفع رايتها، فالقيادات الصغيرة لا تتحمل ثقل القضايا الكبيرة، وكل القضايا تصغر حجماً ووزناً أمام قضية الإسلام في عمقه وشموليته ودقّته وقدسيته وامتداد آثاره; فليس من قضية تتّسع بقدر ما يتّسعُ له الإسلام بتنظيمه واهتمامه زماناً ومكاناً، وشعوباً وأمماً، ودنيا وآخرة، وليس مثله ما ينظر من الإنسان كل كيانه، ويستقصي كل حاجة له، وكل دافع منه، وكل طاقة فيه، ويتحمل مسؤولية صنعه وتربيته بكل أبعاده مدة حياته وقبل ولادة له وبعد وفاة، وليست هناك قضية تعدل الإسلام علميّة وصدقاً وجديّة وعدلاً وحدّية مبدئية وتمسكاً بالحقِّ على الإطلاق.
    فقيادة تنهض بثقل هذه القضيّة وترتفع إلى مستواها ليس في حدّ ندرتها ندرة، حتى إن لم تكن في الأصل إلاَّ لرسول أو وصي رسول من ثابتي العصمة وكمّل البشر على الإطلاق، وإن أثبتها الدليل بالتبع وللاضطرار لمن هو الأقرب فيما له من مجمل الأبعاد الكماليّة العلميّة والإيمانية والخلقية ومحصّل الخبرة العملية من الإمام الأصل.
    ولندخل الآن في الحديث عن البعدين المقصودين لهذا المحور.

    1 ـ المبدئية القياسيّة الثابتة:
    الحاكميّة أساساً إنما هي للمبدأ الذي هو كلمة الله ونهجه وأمره ونهيه; فمن هو الحاكم عندئذ إلاّ من كان يمثّل تجسيداً كاملاً دقيقاً للمبدأ، وكان على مبدئية تامة هو بها والمبدأ على حدّ سواء ميزانُ عدل وحق لا ميل فيه ولا خلل، يرجع اليه في وزن القضايا والمواقف والأشخاص والمقدّمات والنتائج على الإطلاق.
    ولا شخصية تمثّل الإسلام تمثيلاً كاملاً شاملاً دقيقاً وافياً كما هي شخصية المعصوم(عليه السلام); لذا فلا إمام ـ إذا حضر ـ غيره، ولا قيادة سواه، ومزاحمته ظلم وعدوان، والتخلف عنه فسوق وعصيان; والمعصوم وحده هو الذي تحرز مصداقيته الكاملة مطلقاً لما في كلمة أبي عبدالله(عليه السلام): «فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله»(1).
    ولما كان المعصوم بتمامه من صياغة المبدأ فطاعته ومتابعته إنما هما طاعة ومتابعة للمبدأ، وحاكميته حاكميته، فما هو الحاكم في النَّاس عندئذ ليس إلاَّ المبدأ.
    تلك هي المبدئية القياسيّة المطلقة، وهي شرط الإمامة
    في حضور المعصوم(عليه السلام)، وفي غيابه يكون التّنزلُ بإذن الدليل الشرعي إلى مبدئية قياسيّة دونها; تلك المبدئية التي يدخل في قوامها بُعد الفقاهة والعدالة والحنكة والخبرة والرؤية الإسلامية في مختلف الاُمور، والمستوى النفسي المتميّز وتكامل الشخصية بكل أبعادها بحيث يتحصل من متوسط هذه المواهب والمقوّمات ما يقدّم هذا أو ذاك بعينه لموقع القيادة لتفوقِ متوسط ما هو عليه بما يدخل في صلاحية الموقع بالنسبة إلى غيره ممن تكون له تلك المعتبرات بدرجة أو أخرى; ومن صلبها الفقاهة والعدالة.
    وللمبدئية في صاحبها تجليات لا تخفى في ساحة العمل وعند التحدِّيات. ولنتابع بعضاً من هذه التجليات استرشاداً واستنارة في الإمام المعصوم الحسين(عليه السلام)، وفي الفقيه الورع الكفؤ القائد الراحل(قدس سره):
    أ ـ التحمل العلمي للمبدأ:
    الإمام الحسين(عليه السلام) واحد من الأمناء التّامين على خزائن علم الرسالات وهو وارث النبيين والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وهو من ثقل العترة الذين ثبت قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيهم: «إني تركت فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي; ألا وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(2). وهو الداخل في أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس ـ ومنه الجهل ـ وطهرهم تطهيرا، فلا كلام في تمثيله(عليه السلام) الإسلام تمثيلاً علمياً كاملاً، وفي مرجعيته المطلقة في تلقي واقعة القطعي عقيدة وأحكاماً ومفاهيم وخلقاً وتفسيراً وتأويلاً.
    وأما السيد الإمام فالقدر الذي لا كلام لإحد فيه هو أنه من الصفّ الأمامي من فقهاء الطائفة الذين لا يعد لهم فقهاء، وواحد من متضلّعي الفقه والأصول، وغوّاصي الفلسفة، وهو ربان في العرفان، ومن أبرز من تهيأ له فهم الإسلام الشامل في أبعاده المتعددة في صُورتها المترابطة بعيداً عن النظرة التجزيئية الضيّقة داخل الإطار الفقهي الخاص، أو الإطار الإسلامي العام، وبعيداً عن مؤثرات الهزيمة النفسية وضيق الأفق الموضوعي والنظرة التقليدية الساذجة، مع استرفاد البصيرة الفقهية من نقاوة الروح وصفاء السريرة وصدق النية; وقد أثرى المكتبة الإسلامية بكتبه العلمية وكتاباته المعمَّقة ونتاجات قلمه المبدع والمدقق في مجالات العرفان والأخلاق والفلسفة والفقه الاستدلالي وأصول الفقه والحكومة والشعر(3); هذا إلى جانب خطبه وخطاباته طوال عمر حركته المباركة وثورته المظفّرة وحكومته العادلة، وفيها الحكمة، والتربية، والفهم الاجتماعي الدقيق، والنظرة السياسيّة الحاذقة، والبعد الرّوحي المتألق.
    ب ـ الاندكاك في المبدأ:
    من أبرز ما يظهر المبدئية النفسية الصادقة في القائد أن تغيب في مواقفه وتأكيداته شخصيته وراء شعاع المبدأ، لا أن يغيّب شمس المبدأ وراء شخصيته; فالذات التي تتصنَّم وإن رفعت راية المبدأ فإنها تتخذ من ذلك طريقاً لاستراق عظمة المبدأ وقدسيته ومهابته في العقول والنفوس، حتى يكون الاحتلال الكامل لمواقع المبدأ المتقدمة، فتكون القدسية والعظمة قدسية للقائد أولاً وبالذات ثم للقضية ثانياً وبالعرض إن لم يقتصر الاجلال والتعظيم على شخص القائد وينسَ المبدأ. أما الذات التي تزكّى فأول ما تطارده في نفوس الاتباع أن تتعظم ليصغر المبدأ، وأن تُذكر لتُنسى الفكرة، وأن يتجاوز بها حدّ الفقر والامكان ويُرتفع بها عن صعيد الرقيّة وذل العبودية; فكلما كاد أن يتسلل إلى نفوس الاتباع شعور كاذب برد النصر إلى تدبير القائد وعظمة مواهبه، انقضّ على هذا الشعور يحطّمه وينسفه ويُحلّ محلّه توحيد الله، ويرد العقول والقلوب لرؤية بارئها: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى اليَّ أنّما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً)(4)، (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون)(5)، (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً * قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رَشداً)(6).
    نعم، القيادة الإسلامية الكفوءة الصادقة تبهر وتُسحر، فما لم ير المبدأ الذي يمدها بالعظمة والجمال يقف النظر عندها ولا يطلب المزيد فيقع في مسؤوليتها أن تُشهد العشاق جمال المبدأ الذي يمدها وعظمته التي تسترفد منها بما هي فيض الله ونعماؤه ليكون التوحيد ويكون الإخلاص والتسبيح والحمد لله.
    لذا ترى الضراعة والاستكانة واظهار الفقر والضعف أمام الله تبارك وتعالى سيرة دائمة لكل قائد إسلامي حقّ من رسول أو إمام أو فقيه، وفي كل مواقع القيادة على تفاوتها إسراراً واجهاراً، ولكل من الاسرار والاجهار في المورد شأن وأي شأن؟!
    وهذا أبو عبدالله(عليه السلام) يقدّم لنا دروسه الثرة في هذا الميدان الكبير; فمن أول نصوص الثورة هذا القول لأخيه محمد بن الحنفيّة: «ومن ردّ علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب»(7).
    وقال وهو يسلك الطريق الأعظم إلى مكة في خروجه من المدينة لا يلوذ بفرار إلى طريق غامض لواذ المرتجفين: «لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله، تالياً قوله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقّب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين)»(Cool مبدياً ضعفه إلى الله والخطر الموضوعي الذي يتهدده، معرضاً عن ذكر صلابته وعلوّ همّته وإبائه.
    وقال وهو يخطب خطبته اللاهبة في مكة: «رضا الله رضانا أهل البيت» فما ينبغي أن يتوجه إليه الناس كل الناس انما هو رضا الله الذي يقع رضاه(عليه السلام) في طريقه، وما على القلوب أن تنشغل به عمن سواه; إنما هو الله الذي لا يُطلب إلا رضاه، ورضاً فيه رضاه توصلاً إليه.
    ويقول في خطبته الثالثة أمام الحرّ وجنوده: «ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم»(9) واللواذ بالله، وإليه اللجأ والانقطاع.
    وها هو يمدُّ يد الضراعة إلى الله تبارك وتعالى في أصحابه وأهل بيته: «اللّهم إنا عترة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أُزعجنا وطُردنا وأُخرجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أميّة علينا. اللَّهم فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين»(10).
    وعندما يجد تكاثر القوم عليه ينقطع إلى ربه قائلاً: «اللّهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة...»(11) واسمعه وهو يختم خطابه في الجيش الاموي بلغة المستخفّ بالاعداء وما يتهددونه به من الموت مطمئناً إلى رعاية الله ولطفه، متعلقاً بمحبته وطاعته: «وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوا النَصَف من أنفسكم (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تُنظرون)، (إن وليّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين)»(12).
    وعندما يأتي جوابه أبيّاً صارماً على قولة قيس بن الاشعث: «أو لا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه» قائلاً: «لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد» تجده يعوذ بربه الكريم متذللاً بين يديه: «عباد الله إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب»(13).
    ذلك هو الإمام الحسين(عليه السلام) لا يكسره أمام الخلق شيء، وكله انكسار أمام الخالق، وهو الصمود والفولاذية موقفاً وكلمة أمام تحديات المبطلين البطَّاشين، إلاّ أنه القلب المرتجف المرتعش بين يدي الله عزوجل على مرأى العدو والصديق، مظهراً ضعفه ووهنه أمام ربه في أشد المواقف استفزازاً للانا معلناً حقيقة أنه لا حول ولا قوة إلاّ بالله. وحتى عندما يعلن إباءه وشموخه الكبير فيقول: «هيهات منا الذلة» إنما يرجع الأمر إلى الأدب الذي أدبه به ربه والرعاية التي يرعاه بها: «يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت...»(14).
    وهذا التغييب للشخصيّة وراء عظمة القضيّة تطالعنا به مواقف الإمام الراحل وهو يعكس أنوار السيرة المعصومة من خلالها، انظره متمشياً مع قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) إذ يلفت نظر شعبه أن ليس له ولا للشعب في الأصل من الأمر شي، فيخاطبه: «علينا أن نشكر الله الذي منّ علينا فأنعم على هذا البلد بذرّة من قدرته الازليّة فأصبحت قدرتكم اليوم قدرة الهية لا تقبل الضرر»(15) وانظره ينطلق بالافئدة إلى بارئها دون أن يقطع عليها طريقها إلى الحق تبارك وتعالى: «إن الله هو الذي غيَّر قلوب أبناء هذا الشعب بين عشية وضحاها، وجعل الشعب كله يقف بوجه القوى الشيطانية الكبيرة ويكفّ أيديها عن بلادنا، وإنها القدرة الالهية التي ألهمت أعزاءنا الصبر والصمود»(16) ويمضي قائلاً بعد كلمات: «وإنها القدرة الالهية التي جعلتكم أيها الشباب في خدمة المستضعفين وفي مؤسسة المستضعفين.. إن الله تبارك وتعالى بقدرته وعنايته وهب القوة لابناء شعبنا وجعلهم يعملون في رحابه» ويقول في هذا السياق: «وإنها لقدرة الله تبارك وتعالى التي جعلت شبابنا يعشق الشهادة»(17).
    وها هو السيد الإمام يتجاوز بآمال الناس وأمانيهم كل الاوزان والاحجام ليشدّها بما لله الامر وحده: «فلو غاب رجائي، ولو غاب الاخرون فإن الله موجود»(18) وممّن يعنيهم رضوان الله عليه من الاخرين نفسه وتغاضى عن هذا الذكر لما يتضمنه من الالتفات إلى النفس وخصوصيتها.
    وها هو يطارد الصنمية في شعور القوات المسلحة: «وعلى قواتنا المسلحة في جبهات القتال أن تعلم بأنها تقاتل في سبيل الله لا من أجل رئيس الجمهورية ولا من أجل رئيس الوزراء، ولا من أجل الاخرين»(19) وهو يدخل هنا نفسه أيضاً في الاخرين امعاناً في صرف النظر عن الذات.
    ولتقارن الامة في كل بلادها بين هذه الكلمات التوحيدية وبين الشعارات التي تغرس في أعماق وأفئدة أبناء القوات المسلحة هنا وهناك الولاء للحزب أو الفرد، وإذا ذكر الله معه فإنما يذكر ذكراً اعلامياً توصليّاً.
    واسمعه مرة أخرى في هذا السياق: «إن جمهوريتكم الاسلامية خالدة لان سندها الله، ولانكم أقمتموها بسواعدكم القويّة من أجل خدمة دين الله; فهي لذلك ستبقى إلى الابد ولا خوف عليها من أي شيء»(20).


    نَعْم القيادة قيادتان: قيادة مبدئية مؤمنة تعطي كل شيء من أجل الله للامة والمبدأ، وتربط النصر بالله ثم الامة والمبدأ، وتتوارى عن الشاشة كي لا ترى الا عظمة المبدأ; وقيادة أرضية نفعية تأخذ ظلماً كل نفع، وتدّعي زوراً كل نصر. والظهور لها كذباً لا لامة ولا مبدأ; وما النصر إلا من تدبيرها، وما العزّ إلا من فيضها، وما في أيدي الناس إنما هو شيء من فضلها; فهي رب الارباب ومسبب الاسباب، ومن قال غير ذلك هلك.
    ج ـ الذوبان حبّاً في المبدأ:
    الذات التي ترى ذاتها مفصولة معنىً وقيمة حاضراً ومستقبلاً عن المبدأ قد تلتقي مصلحةً معه وقد تنفصل; فإن وقعت مصلحة القضية جسراً لمصلحتها فذاك، وإلاَّ فلا أمة ولا مبدأ ولا قيم; لذا ما لم تذب القيادة حبّاً في المبدأ ويملك عليها وعيها وشعورها، ويتمثل وجودها في وجوده فانما يكون الظهور لها على حسابه، ويكون الحساب لمصلحتها لا مصلحته، ولشخصيتها لا شخصيته; فذاك التغييب لشخصية القيادة في شخصية المبدأ، والتأكيد لحجمه ووزنه وقيمته والتفاني في وجوده إنما هو شأن قيادة التحمت وجوداً بوجود المبدأ وهامت فيه، ولم ترلها وجوداً ولا حياة على انفصال منه; وإذا كانت كذلك لم يكن مبلغها أن تهون عليها التضحية في سبيله، فحسب وإنما ترى موتها حياة إذا كان فيها حياته فيهنأ الموت وتلذ المتاعب.
    ومن هنا رأى سيد الشهداء(عليه السلام) شهادته وشهادة أصحابه فتحاً: «ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح» ورأى من شدائد الالم الجسدي والنفسي في ظل نشوة الروح وغبطتها أمراً هيناً: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله»(21) وكان يعيش الروحيَّة الناطقة بمؤدى هذين البيتين:
    تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا
    ولو قطعتني في الحب ارباً لما مال الفؤاد إلى سواكا
    ذلك الحب العارم لم يُبقِ في يد الإمام الحسين(عليه السلام) شيئاً إلا وضحى به في سبيل الله، ومن أجل عزة الإسلام سعيداً رضيّاً وأن تتفنَّى روحه الطاهرة بذكر الله الجليل الجميل الكبير المتعال، وهو على مقربة من لفظ النَّفَس الاخير مسبِّحاً مقدساً حامداً شاكراً واثقاً راغباً لائذاً متملّقاً موحّداً صادقاً، في مناجاة متأججة تنطلق لاهبة من الروح الصاعدة إلى رضوان من لم يشغلها يوماً هم عن رضاه.
    وتلتقينا في تلميذ عاشوراء وخريج مدرسة الحسين(عليه السلام) السيد الإمام(قدس سره)روح الفداء في سبيل الله بلا شرط، والتضحية من أجل الإسلام بلا حد; ولقد واصل الدرب الطويل لم يهن ولم يكل ولم يعله سأم ولا ضجر ولا فتور، وما شكى يوماً من فداحة الخسائر المادية أيام الثورة، وأيام الحرب المفروضة، وفي عمليات الاغتيال، بل كان يرى في كل ما يحدث من تضحيات وعطاء كبير مفخرة وعزّاً، وفي روح الشهادة المتحفّزة تقدّماً ونصراً وحياة ومجداً، وما كثرت التضحيات الهائلة في نظر له، وإنما دأبه أن كان يستقل الكثير في سبيل الله.
    يقول(قدس سره) في صبيحة اليوم الثاني لاستشهاد محمد علي رجائي ومحمد جواد باهنر ـ رئيسي الجمهورية والوزراء ذاك الوقت ـ : «فالشعب الذي يعتبر نفسه وكل ما يملك لله سبحانه وتعالى ويعتقد بأن الرحيل عن هذه الدنيا نحو الخالق والمحبوب هو الهدف والمراد، مثل هذا الشعب لا يمكن لاحد أن يتحداه مطلقاً»(22) وسيدنا الكريم من أوائل أبناء الشعب الذين يعتقدون بأن الرحيل عن هذه الدنيا نحو الخالق والمحبوب هو الهدف والمراد.
    ويضيف في السياق نفسه: «فخطأ العدو يكمن في عدم معرفته بالاسلام، فالذين يحتضنون الشهادة ويعانقونها كما يعانقون الاحبّة; مثل هؤلاء لا تستطيع أي قدرة الوقوف بوجههم» فالشهادة التي تعني أكبر طفرة في وجود الذات وتحولها إلى اشعاع من اشعاعات الإسلام، وتعني لقاء أبديّاً روحياً بجمال الله وجلاله، وفوزاً برحمته ورضوانه هي هدف يُطلب لا مخوف يُحذر.
    والتضحيات عنده(رضي الله عنه) في سبيل الله بلا حدّ كما تقرره كلمته: «ويجب أن ندافع عن هذا الدين ولو قتلنا جميعاً»(23) قتل للجميع في ايران، أو في أي بلد آخر فيه حياة الدين وانقاذ الارض من الضلال، وفيه رضا الله، وعزّ الإسلام وهيبته وحيث لا تبديل يدخل في القليل ولا يستكثر، ولا محذور ولا مخوف حيث يكون القصد لوجه الله والعاقبة رضوانه: «إن الله معنا; نحن نعيش مع اسلامنا ونعمل لله، ولماذا يخاف من يعمل لله؟ وممن يخاف من يسير في طريق الله؟»(24).
    والجهاد مستر وتمزيق الاجساد لا يمثّل تهديداً ما كانت مصلحة الإسلام في المواجهة: «نحن لن نخضع ساعة واحدة للظلم. دع الاسلحة الامريكيّة والاسرائيليّة تمزّق أجسادنا، فنحن مصممون على الجهاد ولا يُرعبنا أي شيء أبداً»(25).
    وإن الشهادة لغنيمة الاحرار ومحطّ أمل المتّقين من ذوي الشهامة، ولا وحشة على الطريق; طريق الله ولقائه ولو خلا من السائرين: «لقد وضعت دمي وروحي الرخيصة على الاكف في انتظار الفوز بالشهادة العظيمة في سبيل الواجب والحق وأداء فريضة الذود عن حياض المسلمين.
    ولتكن القدرات والقوى الكبرى وعملاؤها على ثقة بأن الخميني سيواصل طريق الجهاد ضد الكفر والظلم والشرك وعبادةِ الاصنام حتى لو ظلَّ وحيداً»(26).
    ويظل الإسلام ومقتضى مصلحته هو المنظور الوحيد في التعامل مع الاحداث; وإذا هدد الإسلام في صلب وجوده لم يُستثن ثمن لانقاذه. يجيب(رضي الله عنه)على مجزرة الفيضية عام 1963 م قائلاً: «إنّ مبادئ الإسلام معرّضة اليوم للخطر، القرآن والدين في خطر، ومن هنا فالتقية حرام والكشف عن الحقيقة واجب مهما كلف الامر»(27).
    د ـ التحلي بأخلاقية المبدأ:
    أخلاقية المبدأ قد تكفّ اليد عن نصر قريب غير مكلف، وتفرض الاستعلاء على فرص كبيرة مواتية حفاظاً على الاصالة، وابقاء على النقاوة، وهي سر الخلود وأساس الدور المطلوب من المبادئ.
    وقد ترفَّع رسولُ وعي الحسين وأخلاقيته الكريمة مسلمُ بن عقيل على نصر فيه رائحة الخيانة، وسقى شهيد الطف عطشاناً أعداء جاءوا يطلبون دمه ظلماً من ماء يمدُّهم ببقاء الحياة، ووقف الثائر الحسيني وقد دكَّت صواريخ صدام مدنه وقراه وحصدت الامنين، يذود عن كل مدينة وقرية في العراق قذيفة تنالها من جنود الإسلام، أو موتاً يلحق بريئاً واحداً، وإن صنع ضرب المدن العراقية ضغطاً على الجيش المقابل.
    «إن انتقامكم يجب أن تأخذوه من صدام ومن حزب البعث، والان أنتم في عملياتكم تأخذون الانتقام احذروا من أن تطلقوا قذيفة واحدة على مدنهم، إنَّ مدنهم هي كمدننا، فكما هي بهبهان مظلومة كذلك هي البصرة مظلومة أيضاً ومندلي مظلومة; إنهم كلهم مظلومون»(28).
    وتلازم الاخلاقية الاسلاميّة السامية هذا القائد الرسالي الفذَّ في أصعب الظروف وأشدها ضغطاً، وفي الوقت الذي أجمع فيه الاستكبار العالمي على القضاء على ايران الإسلام وثورتها الاسلامية المباركة عن طريق العدوان الصدامي المخطط والمدعوم عالمياً; فلا هذا الاجماع والدعم، ولا التهور والانفلات الجنوني في العدوان الصدامي على المدنيين الامنين بأسلحة الفتك والدّمار، وخرقه لكل الموازين والقيم إلا قيم الغاب وحضارة الغرب الحيوانية المتهتكة، فلا هذا ولا ذاك استطاع أن يحيد بالقائد المبدئي الصلب عن أخلاقه وقيمه وتساميه: «نحن يجب أن نحفظ الجوانب الانسانية حتى الموت والشهادة»(29)، «إنني أريد أن أقول إن حراسنا هم أعزاء جدّاً علينا، وكذلك هم القوات المسلحة، ينبغي أن يعوا وأن يعرفوا أنّ السلاح الذي يحملونه يجب أن لا يصحبه غرور»(30).
    إنَّ الشخصيّة الفولاذية هي التي لا تنهار أمام عدو وبطشه، ولا تستطيع استفزازاته أن تميل بها شيئاً ما عن خط مبدئيتها; أمَّا الذي يستطيع أن يصمد ويحارب ولكن بغير قيمة فهو ضعيف منهار; فالسيد الإمام كبير جدّاً وحديدي جدّاً بكل معاني الكلمة وأبعادها، وإنه ليرى القوة كل القوة في الوقوف مع المبادئ مهما كلف الامر وأن الضعف والانهيار في أن يستفزّك عدوك للتخلي عن قيمك: «إن قصف المدن الايرانية واستشهاد أعزائكم يجب أن لا يفقدكم السيطرة على أعصابكم وتندفعوا إلى الانتقام لذلك... ويجب أن تدركوا جيداً بأن عليكم أن لا توجهوا حتى رصاصة واحدة إلى المدن العراقية»(31)، «وإنني أقول لاولئك الابطال الذين ينزلون الضربات الساحقة بصدام ومرتزقته بأن قوتكم وقدرتكم يجب ألاّ تكون دافعاً للانتقام خلافاً لما تنص عليه الاحكام الالهية»(32) وما أروع ما تسجله كلمته الاتية في نفس السياق من صرامة مبدئية وصدق رسالي وخلق نبوي كريم، يأبى أن يطلب النصر بالهزيمة والحق بشيء من الباطل الوبيء: «إن الجمهورية الاسلامية ستواصل التزامها بالجوانب الاسلاميّة والانسانيّة مهما كلف الامر حتى لو كتبت لها الشهادة أو الموت على هذا الطريق، فإن جمهوريتنا جمهورية اسلامية وإن الإسلام هو الذي يحكمها وإن المقاييس لدينا هي مقاييس اسلامية بحتة»(33).
    هـ ـ الشدة في ذات الله:
    لا تكون مبدئية ما لم تكن نفس تتحمل ثقل المبدأ في كل الظروف، وتستعصي على المهادنة للقريب والبعيد في سبيله، وتتمرد على الرغب والرهب في الذات وفي الحبيب وفي الصديق وفاء للامانة ونهوضاً بالمسؤولية، ومستوىً آخر هو الاليق بموقع القيادة ذلك الذي لا يجد أي معاناة داخلية وهو يقدِّم مصلحة المبدأ على كل شيء; لان أي شيء لا يملك أن يزاحم موقع المبدأ في نفسه أو يقاربه; فكل ما له حب واحد، واحترام واحد، هو منبع كل حب وكل احترام آخر; ذلك هو حب المبدأ واحترامه المترشح عن حب الله واجلاله.
    والقيادة أمر ثقيل مرهق للعظماء، إن يتحمله متحمل فمن ذلك المستوى، أو ممن لا يأبه لدين ولا معيار عدا هواه وسفهه.
    مضى الإمام الحسين(عليه السلام) لا يلوي على شيء في طريق الشهادة وقد حاولت دنيا الاعداء والاصدقاء وشفقة المشفقين، وشماتة الشامتين، وأمنيات المغرضين، وعويل أرامل المستقبل ويتاماه، وتخذيل المخذِّلين، وخيانة الخائنين أن تستوقفه في نقطة وأخرى من الطريق; إلا أنها لم تجد منه الرجل الذي يسمع شيئاً من ذلك فضلاً عن أن يسبب له موازنة ومراجعة.
    وها هو قائد الثورة الشعاع لا يزايل بصره مرضاة ربه، ولا يرمي بطرفه إلى غير أمر الله ونهيه، وكأنه ليس في دنيا الناس برغائبها ومخاوفها، وما تعارفت عليه من مطاببات وتمنيّات ومجاملات تهدم من المبدئية ولا ترمّمها.
    هذه كلمة، وكم تحمل هذه الكلمة من انقضاض عنيف على المألوف الذي قد يؤلم الكثير من الطيبين طيبة بلا دقة أن يتجاوز، فكيف بهذا الانقضاض الشديد: «وأخيراً يجب أن أقول هذا الكلام والله يعلم بذلك، بأنني لست شديداً على النَّاس العاديين بقدر ما اكون شديداً على علماء الدين الفاسدين. فالساواك عندي اكثر احتراماً من علماء الدين المنحرفين»(34) وكلمة أخرى موجهة للسيد رجائي الذي يضع فيه ثقته: «في هذا اليوم يجب أن أقول شيئاً إلى السيد رجائي كالذي قلته إلى الرئيس السابق; إن منصب رئاسة الجمهورية سيؤدي إلى الضلال إذا أصبح همّاً دنيوياً لنا»(35). ويضيف مخاطباً له: «لقد كنت بالامس رئيساً للوزراء وقبلها وزيراً وقبلها معلّماً وقبلها طالباً ولا يمكنك التنبؤ بما يصيبك بعد ذلك فلربما انفجرت هنا قنبلة وقُضي على الجميع. إذا كان الامر كذلك فلماذا يختلف الانسان قبل وبعد تصدّيه لمنصب رئاسة الجمهورية؟ إن من دخل نور التوحيد إلى قلبه يرى جميع العالم شيئاً صغيراً جداً أمام عظمة الباري عزوجل»(36)

    ويقول في السياق نفسه: «فلو لم يعمل رئيس الجمهورية طبقاً للاسلام فإن ثلاثة عشر مليوناً سيحاسبون في اليوم الاخر، وإذا وطئت قدماك طريق الضلال فإن الثلاثة عشر مليوناً سيهتفون غدا بالموت لك»(37).
    هذه مساحة وفي مساحة أخرى يقول لرسول الباباً يوحنا بولس الثاني: «لماذا لا يفكر قداسة الباباً في حماية الشعوب المستضعفة في العالم»(38)، «وكنا نتوقع أن يسأل كارتر ويستجوبه لماذا سلطتم هذا الشخص أي الشاه المخلوع على هذا الشعب؟ وأن يسأل كارتر الان لماذا أخذتم شخصاً خان وأجرم خلال أكثر من ثلاثين عاماً واحتفظتم به؟ وتريدون التآمر من هناك؟»(39).
    وكانت من السيد الإمام فتوى ليس غيره أعلم بما تكلّف من ثمن، ولكنه الرجل الذي لا يغلو في نظره من أجل عزة الإسلام والذود عن حماه ثمن، فانطلق في فتواه باعدام سلمان رشدي مبدئيّاً، وثبت عليها فولاذيّاً، وميّزته في هذا الموقف ككل موقف له الخشونة الصلبة في ذات الله، وقد وهم الكفر العالمي أن اعلامه ومختلف تهديداته وضغوطه يمكن أن تردّ قراراً لسليل الحسين(عليه السلام)وراءه وعي مدرسته وتقواها وعزيمتها، وكأن كلمات القائد الكبير أرادت هزءاً بالكفر حينما قال: «إن الاستكبار العالمي يتصوَّر أنه إذا جيء باسم السوق المشتركة والحصار الاقتصادي فإننا سنتراجع ونغض النظر عن تطبيق الاحكام الالهية»(40)، واستبق الاحداث محذّراً ضعاف النفوس من انهيار مستقبلي أمام لغة الارض وحساباتها: «انني أخشى أن يأتي محللو هذه الايام بعد عشر سنوات ليقولوا إن حكم الله ـ يقصد في حق سلمان رشدي ـ كانت له آثاره وتبعاته السيئة على علاقاتنا مع السوق الاوربية المشتركة والدول الغربية، وأنه كان ينبغي علينا أن نغض النظر عن الذين وجّهوا الاهانة والاساءة للاسلام»(41).
    ذلك هو الإمام القائد الذي لا يفوت وعيه أي شيطان مارد وراء القذر سلمان رشدي، وأي تحطيم أريد لهيبة الإسلام، وأي اختبار استهدفه الاشرار. والرجل الذي لا تضعف عزيمته أن يواجه الاستكبار كله، ولا يكبر تقواه أن لا يخشى إلا ربَّه. عشقه لله وثقته به تجعلانه في مواطن الرضا الالهي لا يسأل: مَنْ سيضاده؟ ولا ما هي الخسائر الدنيوية المترتبة على موقفه؟ وممن تكون التخطئة وممن يكون التصويب؟

    و ـ التسليم والرضا:
    من القيادات من يتمتع بالمعنويات الكبيرة ما دام نصر وتفوّق، وإذا كانت هزيمة استولى عليه ما يستولي على الصغار من الاندكاك، وقد يؤدي به الامر إلى الانتحار; ذلك نمط من القيادات أكبر ما في طموحه أن ينتصر، والنصر عنده غلبة خارجية فيها الظهور والمكسب المادي والانتفاخ.
    وأما الذين لا يرون لهم نصراً إلاّ في مرضاة الله، ولا هزيمة إلا في غضبه فلا يصغرون بشيء ما داموا على طريقه، وكل سعيهم أن يؤدوا حقَّ المولى، ويستفرغوا الوسع في نصرة دينه ليستقبلوا النتائج الخارجية من بعد ذلك لهم أو عليهم برضاً وتسليم، مواصلين السعي ما ملكوا جهداً على طريق الله. ومن سخط وهو لا يجد باباً مفتوحاً على ما يرغب ذاب وانفجر وانتحر، وهذا لا يأتي على مجاهد في سبيل الله وفىّ واخلص وإن أحاطت به الهزيمة من كل صوب لان ما في وعيه وشعوره أنه في موطن الشكر لما وفّق، وأما النصر الفائت فهو أمرُ ربّه الذي لا يتحمل هو ضمانته، ولا يشك في قدرة الله عليه وحكمته في تأخيره.
    هذان التسليم والرضا سمتان بارزتان في القيادة المبدئية يحفظان منها توازنها دائماً، ويبقيانها على الوقار، ويحميان معنوياتها من التصدع، فلا تعرف من هزيمة الداخل شيئاً، ولا من شعور الخسارة ولو فتيلاً.
    وهذه وقفة مع أبي عبدالله(عليه السلام) في عاصفات الشدائد: «كأني بأوصالي تقطِّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملان مني أكراشا جوفاء وأجربة سغبى لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت»(42).
    وفي جواب كلمة الفرزدق: «قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية» قال: «إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته»(43) والمطلوب كل المطلوب عنده(عليه السلام) الاستقامة على الدرب وأن لا ينحدر حدث مهما طغى بالمرء عن الخط.
    وجاء من كلماته سلام الله عليه في اللحظات الاخيرة من حياته الشريفة في الدنيا وقد اجتمعت عليه كل أصناف الالام ولم تبق إلا روحه الطاهرة القدسية لم يمسسها ضنىً، ولم تنل منها الكوارث فكانت منبع الصبر والاحتمال ومحل الرضا والاطمئنان; جاء من كلماته: «صبراً على قضائك يا رب لا اله سواك يا غياث المستغيثين، ما لي رب سواك ولا معبود غيرك. صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له...»(44) والكلمة تتجاوز الصبر والنهوض بثقل الالام والهموم بكفاءة، إلى الاقرار بالمنِّ من الله والعناية واللطف: «ما لي رب سواك»، فالمقام عنده(عليه السلام) وهو من أشد الكُرَبِ مقام اعتراف بالجميل الالهي حيث الربوبية المتفردة والامداد والتدبير والعناية والاكرام، ومقام التوحيد العبادي الذي ينطوي على الشكر الخالص والحمد الجليل والثناء الجميل والتكبير والتقديس والتنزيه.
    وينطلق الإمام الراحل في التسليم لبارئه والرضا بقضائه وقدره من عبودية الكائنات المحضة المطلقة للمالك الحق الذي لا تخرج من ملكه ذرة ولا ما هو أقل. وفي ظل هذا الوعي المتجذر والشعور المتمكن الضارب تخف على النفس الهلوعة آلامها وتفقد النوازل الثقيلة وزنها: «إن ما يخفف لوعة هذا المصاب وفداحته هو أننا لا نملك شيئاً من أنفسنا وأننا لله وأنا إليه راجعون; وكل ما نملكه أمانة من عند الله تفضّل بها علينا ونعود كلنا إليه ثانية»(45).
    وكيف يسخط عبد لم يأت عليه آن يملك فيه مما أوتي من نفسه وغيره شيئاً إذا ما استردَّ المالك ما آتى عدلاً وحكمة ولطفاً؟!
    ما ينبغي أن يقال هنا هو أن مهمات القيادة مهمات ثقال وأن آلام الموقع آلام تدك الجبال، فإما قائد لا يشعر بمحنة ما سلمت له نفسه وشهوته، وذاك في راحة البهائم حتى يحاصر الخطر حياته ومنصبه فيكون الانهيار والتضعضع، وإما قائد يحمل همّ الامة، ويشعر بكل جراحاتها لكن بقلب كبير يمدّه وثوقُه بالله، ورضاه بقدره، وتسليمه له صبراً وتفوقاً واستعلاء على ضغط المحن، واستحالةً على الذوبان.

    2 ـ الرؤية الموضوعية المتقدمة:
    هذا هو البعد الثاني من بعدين قلنا بالاقتصار عليهما في الكلام عن محور القيادة والقيادة الاصيلة كما أنها فهم مبدئي معمَّق شامل، وخبرة اسلامية واسعة، واستيعاب دقيق للاطروحة عقيدة، ومفاهيم، وأخلاقية وأحكاماً، وكما أنها روح زكية نقية وتقوى ونزاهة، ونفسية عالية صلبة، ومعنويات كبيرة فكذلك لا بد من توفرها على الرؤية الموضوعية الدقيقة والخبرة الميدانية الصادقة والتقدير العملي المتميّز، وتشخيص الاوضاع الحاضرة، والنظر الثاقب للتحولات المتوقعة، وما يمكن أن يتمخض عنه لون التحرك من نتائج من نوع السلب والايجاب.
    وتختلف دراسة الموضوع الاجتماعي ومداخلاته عن دراسة الموضوع العلمي البحت; لدخول البعد النفسي بشدة في الدراسات الاجتماعية دونها عادة في الدراسات المقابلة; وترتبط الدراسة الاجتماعية وتشخيص الموضوع المتصل بها بالبعد النفسي بدرجة أشد، حين ترتبط نتائج هذه الدراسة في بعض فروضها بما يقتضي التضحيات الضخمة والمخاطرات الهائلة، ولاسيما إذا كان المظنون أو المتيقن أن الكلفة الباهظة تعني عطاء بلا أخذ في هذه الحياة الدنيا.
    في ميدان العلوم البحتة يحتاج الوصول إلى التشخيص الموضوعي إلى الفهم والدقة والخبرة، ويزيد أمر التشخيص الملامس للواقع مؤونة وعدة في مورد الدراسات الاجتماعية والسياسية مما يراد أن يرتب عليها تحرك تغييري لا يغري بمصالح ذاتية وإن أغرى بمصلحة المبدأ.
    تشخيص الموضوع هنا محتاج إلى المبدئية التي تقدمت بعض ملامحها، وإلى بصيرة نافذة وخبرة جامعة، بالاضافة إلى نفسية مقاومة لا تغزوها التشكيكات الواهمة فتحول علمها جهلاً، وطمأنينتها اضطراباً، واليقين عندها وهماً، وإلى شجاعة فائقة لا يردّها خطر، ولا يصيبها خور.
    فمن غير تلك المبدئية ينقلب الابيض أسود في النفس التي لا تحرز في التحرك مصلحة دنيوية; وسطحيّة النظر وضآلة الخبرة لا يمكن أن تقع على حقيقة موضوع بهذا العمق وله امتداداته المستقبلية الغامضة، والنفس الموهونة لا تصمد لها قناعة أمام التشكيك، وهو كثير في هذا المجال من الصَّديق والعدوّ وممن له شأن ومن ليس له شأن. وإذا لم تكن شجاعة بحجم التحديّات، فإن الرأي المستتبع للمخاطر تردّه النفس وتسفهه فلا يكتسب حد القناعة.
    وما كان رأي فيه مواجهة لموت محتّم وهزيمة مادية واضحة، وتضحية بالولد والعشيرة والاحبة والمخلصين من أهل المودة وتعريض الخلف من الصغار والحريم للاذى البالغ، كما كان في الرأي الذي تشخّص عند الإمام الحسين(عليه السلام) وثبت عليه قبل وبعد ما وصلت اليه المعلومات الدقيقة الموثوقة بقتل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل، والارتداد عن بيعته تحت عوامل الترغيب والترهيب واساليب البطش الطاغوتي التي مارسها عبيد الله بن زياد.
    وقد كان للامام الحسين(عليه السلام) من موفور المواهب الالهية في ذاته من دون العصمة فوق ما يطمع فيه الكثير من ذوي النباهات والادراكات المتميزة، وهو الذي عايش تقلّبات الساحة الاجتماعية والسياسية منذ نعومة الاظفار، ووقف على مراكز القوى ونمط العلاقات، وما يطبع مختلف التيّارات والطبقات المهتمة بالشأن السياسي آنذاك، وتلك التي تمثّل وفود التحركات، وذلك من خلال الاحتكاك برجالات تلك القوى باللقاء والمواجهات، ومن خلال موقعه الملتصق بمركز صنع القرار حيناً، والمعارضة حيناً آخر.
    وهذا فضلاً عمّا له من جهة موروث الوحي ومعين العصمة جعل الوصول إلى صوابية تشخيصه والحكمة الفائقة في قرار الاستشهاد، وما حفّ ذلك من تحضيرات وإعداد كأخذه النساء والاطفال إلى ساحة المعركة في صحراء كربلاء، لا يتمّ لذوي النظر الثاقب إلاّ من بعد زمن من استشهاده(عليه السلام).
    ولقد كان له من يقين الرؤية، ويقين الوظيفة والتكليف، ومن بنائه النفسي المحكم، وفولاذية شخصيته ما أفقد الكلمات المخذّلة، والاقتراحات بتغيير المسار ولو أتت من أكثر الناس شفقة وأصدقهم نصحاً وخبرة أن تنال من يقينه، أو تميل بوجهة نظره، وقد سمع منها الكثير المبالغ في الالحاح والتمني.
    ولقد جاء النصُّ المبكِّر عنه(عليه السلام) الذي يجمع بين شهادته وشهادة صحبه وبين الفتح المبين، فتمّت الشهادة، وكان النصر الذي لم يكن يراه قبل أحد من أهل النظر الحديد، هذه كلمته التي حدَّدت الوسيلة وأعلنت النتيجة في أول الطريق: «فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح» فهو الفجر الذي يشعّ به دم الشهادة والنصر المنطلق من أحضانها.
    ونظر قائد الثورة الشعاع بعد زمن فرأى وقته الاقدامَ كما كان قد رأى الاقدام سيده الحسين(عليه السلام). نظر فشخَّص، وشخَّص فقرّر، وقرَّر فانطلق لا يستوقفه نداء يستريح ركبه المُغذَّ على الطريق المتعب الطويل.
    رأى مأساة أمّة، وشخّص ما بيد الاصلاح، وما تملكه يد الافساد الضارب المستطير، وقرّر أن تكون ثورة;

    ثورة كلمة ودم في وجه عدة وعتاد، ودعم عالمي ليزيد عصره في ايران، في وجه سادس نظام تسليحي في العالم، ورأى أن يكون فتح لا يلزم أن يكون الفتح العسكري القريب، ولكنه الفتح الاعمق الذي عبر عنه بفتح الفتوح، ألا وهو حياة الارواح وحياة القلوب، وحيث يكون هذا الفتح الغاية الذي سبق أن استهدفته كربلاء الحسين(عليه السلام) لا بد أن يكون نصر عسكري ولو من بعد حين.
    ومضى السيد القائد مع رؤيته وقراره منطلقاً وحده في أول الطريق وكلما أسرع الخطا امتدت اليه ألسنة يصل سمعه منها نداءات بتريث، ونداءات باشفاق وتخذيل، ونداءات بنقد لاذع مرير، ولكن شيئاً منها لا يخترق فؤاده الحصين، حتّى توغل به طريق الكفاح ولحقت به قوافل الثائرين إلى أن كان التيار المتعاظم والطوفان الكبير.

    المحور الثالث: النخبة والامة
    أقرب النّاس إلى الثورة بعد القيادة فكراً وروحيَّة ونفسية واستلهاماً، وقدرة على التمثيل لرؤاها وقيمها وآدابها، وعلى التحمل لاعبائها ومسؤولياتها، ومواصلة الطريق هم النخبة الذين تجمعهم والقيادة مدرسة رسالة واحدة، وهم الشرايين التي تغدّي الامة بوعي الرسالة وحسِّها، وتتدفق بالدم الجديد الذي يعطي لها حياتها ومعنوياتها; والامة هي المخزون الكبير الذي يمد الثورة بمقوّمات المواجهة الشاملة وبالنخب المتجددة، ويتحمل مسؤوليتها على المدى البعيد، والامة هي حقل الثورة الذي تستهدفه بالاعمار، وحضورها الفاعل واستعدادها لان تعطي كل شيء للنصر يجعلان يومه قريباً، ووزنه هائلاً; فلا بد من نخبة وأمة، والثورة التي لا تجد نخبة واعية، ولا أمة فاعلة تبدأ أول ما تبدأ بايجادهما.
    ولنقف قليلاً مع كل من النخبة والامة في الثورة الامّ والثورة الشعاع:
    1 ـ النخبة:
    تتميز كل من الثورتين الاصل والامتداد بنخبة نادرة وقعت الموقع المتقدم في نظر القيادة الثائرة، حتى إن كلمة الإمام الحسين(عليه السلام) وهو المعصوم الذي لا تخطئ على لسانه الكلمة ولا تأتي أوسع من معناها، قد ذهبت بمنزلة أصحابه في الوفاء والاخلاص وتجسيد القضية والتضحية والفداء عالياً جدّاً، فلم تقدّم عليهم أنصاراً من كل الرساليين من قبل ومن بعد إلا ما أخرجه النص الخاص من امام معصوم، كأمير المؤمنين(عليه السلام) في صحبته ونصرته لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). يقول سيد الشهداء(عليه السلام): «أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي»(46) فأصحابهُ(عليه السلام) على سموّ من كلمة، وعلى عظمة من موقف، وعلى سموّهم وإخلاصهم قولاً تجدهم اعظم موقفاً وجهاداً فلقد مشوا إلى الموت في سبيل الله بقدم ثابتة، مختارين غير مكرهين، راضين غير ساخطين، مستقلّين ما أعطوا غير مستكثرين; يرون الموت بأمّ أعينهم وفرص الحياة مفتوحة أمامهم من إمامهم ومن عدوهم فلا يرون في الحياة طعماً أمام لذة الشهادة في سبيل الله، ولا يواقعون الشهادة منفعلين، وإنما يخوضون اللجّة قاصدين لها ببصيرة الموقنين، ووعي حملة الرسالة، وروح البررة الاطهار، والحبّ والاخلاص لله ودينه وللمؤمنين; يقذفون بأنفسهم في قلب معركة طاحنة لا يتطلعون فيها إلى نصر ولا دولة يعزّ فيها القريب وينعم الحبيب، بل كلّ تطلعهم أن يبعثوا الامة من جديد ويُعزوا الدين على المدى البعيد مرضاة لله وطلباً للقائه.
    وهذه مواقف وكلمات من صفوة بعثت أمّة وأحيت ديناً، وحفظت منجزات لتاريخ ضخم من صُنع الرسل والانبياء والاوصياء العظام، وهي مواقف وكلمات لا زالت قادرة على أن تصحّح وأن تعمر وأن تشيد وأن تنسف بناء فاسداً متهرّئاً، وتقيم مكانه البناء السليم القوي المتين; وكلمات أخرى قيلت فيهم تضعهم حيث هم منارات هدى وشوامخ عزّ ونماذج ايمان.
    أ ـ قمة وعي وبصيرة وايمان:
    حبيب بن مظاهر يسجل كلمة تقييم لاولئك الصفوة وهو يدعو حيّاً من بني أسد لنصرة أبي عبدالله(عليه السلام): «إني أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم; أتيتكم أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيكم فإنه في عصابة من المؤمنين الرجل منهم خير من الف، رجل لن يخذلوه ولن يسلموه أبداً»(47).
    هذا التّميّز الضخم يطلقه حبيب ليتناول أبعاداً وأبعاداً من الشخصية الاسلامية السويِّة بما فيها من دقة التشخيص والبصيرة في الدين والاصرار عليه، ومواجهة كل الاحتمالات في سبيله.
    وهذه كلمة أخرى لهذه الشخصية الاسلامية الموغلة في الايمان والوعي: «أما والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته، وكبار أهل هذا المصر المجتهدين بالاسحار والذاكرين الله كثيراً»(48).
    أولئك الذين باتوا ليلة العاشر من المحرم ينتظرون مطلع شمس تخضبه دماؤهم الزكية، باتوا مقبلين على الله بين راكع وساجد وقائم وقاعد في خشوع المصلّين من ذوي الالباب، وبين تال للقرآن ومستغفر، ولهم دويّ كدوي النحل، لكنه الدويّ الصاعد إلى السماء الخالد على الدهر، المعلِّم للاجيال، المتضوّع بعبق التقوى في وعي، وأريج الايمان في سداد ورشد.
    واحدهم كان برير الذي تقول النّوار لقاتله زوجها كعب بن جابر: «أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيد القراء؟ لقد أتيت عظيماً من الامر! والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً»(49).
    ومسلم بن عوسجة الذي يستثير شبثَ بن ربعي ـ وهو عدو ـ فرحُ قاتيله فيقول: «ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم. تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة ! أما والذي أسلمت له، لربّ موقف له رأيته في المسلمين كريم; لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون؟!»(50).
    نعم إنهم فرسان المصر وأهل البصائر; يقول بالاول أنهم ثبتوا للموت حين لا يثبت إلاّ قليل في الخلق، وبالثاني أنهم لم يعدلوا بالحسين شيئاً.
    ب ـ أمانة قمة ورساليّة
    مثل: قيس بن مسهر الصيداوي وقد وقع في يد الحصين بن تميم يمزّق رسالته من الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أهل الكوفة، ويمثل أمام ابن زياد فيرفض أن يعطي معلومة تخدم العدو وإن أنجته من قتل، ويقبل أن يصعد المنبر بعرض من ابن زياد ليذكر سبط رسول الله بما لا يجري به لسان مؤمن; ولكن لا ليفعل وإنما ليؤدي رسالة جاء يفديها بالحياة، وليقول كلمة فيها نصرة للقضية وان كان الثمن أن يستثير الطاغية ويواجه بذلك أشد تنكيل، وأقسى عقوبة. صعد فحَمِد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله وأكثر من الترحّم على علي والحسن والحسين، ولعن عبيد الله بن زياد وأباه وعتاة بني أمية. ثم قال: «أيها الناس هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله(عليه السلام) وأنا رسوله اليكم وقد خلفته بالحاجر فأجيبوه»(51).
    ويطبق الإمام الحسين(عليه السلام) في مورد خبره قوله عز من قائل: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً)(52) لم يردهم عن خط المبدأ، والوفاء بالعهد، وأداء حق الامانة الثقيلة ضنىً ولا موت ولا صعاب.

    ج ـ الوعي الذروة:
    «وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين(عليه السلام) فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبَّاس وجعفر وعثمان بنو علي بن أبي طالب عليه وعليهم السلام فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون; فقالت له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!»(53).
    هذا وعي ايماني وسياسي ناضج ذروة، يواجه العرض الرخيص من شمر وإن كان فيه الابقاء على الحياة. إن أشبال علي(عليه السلام) ليدركون أن الحسين(عليه السلام)هو الإسلام، والحياة في معزل من خطه حياة في معزل من الإسلام، وهي حياة خواء لا تساوي شيئاً; فالشمر هنا إنما يعرض على الفتية الاباة حياة الذل والهوان، ويعرض عليهم خيانة القضية ورمزها الكبير; انه يريد أن يأخذ منهم كل شيء والثمن أمان ملعون على حد تعبير الفتية الكرام، ملعون لانه عار، ولانه سقوط وهوان، ولانه انفصال عن الجنّة والتحاق بالنّار.
    هنا وعي ايماني يقدّم مرضاة الله على حياة الفانين، ووعي سياسي لا يرى أمنا حقيقيّاً لجماهير الامة ونخبها مفصولاً عن أمن القضية والقيادة، ويرى أنه بعد اضطهاد الإسلام ورمزه ليس للاخرين إلاّ الاضطهاد.
    د ـ القتال المبدئي:
    يقف عمرو بن قرظة الانصاري أمام الحسين(عليه السلام) يقيه من العدو، ويتلقى السهام بصدره وجبهته فلم يصل إلى الحسين سوء، ولما كثر فيه الجراح التفت إلى أبي عبدالله وقال: «أوفيت يابن رسول الله؟ قال: نعم أنت أمامي ف

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 4:48 pm